الأوامر (درس54)
الدرس دروس خارج الأصول مباحث الدليل اللفظي الدرس 54 التاريخ : 2008/12/21 بسم الله الرحمن الرحيم المرّة والتكرار من بحوث الأوامر بحثٌ يُعنون بالمرة والتكرار، أي أنّه هل يدل الأمر على المرّة أم على التكرار؟ والحق ـ وفاقاً لغير واحدٍ من المحققين ـ عدم دلالة الأمر على المرّة ولا على التكرار، والصيغة دالة على الماهية معرّاةً عن قيد المرّة أو التكرار، وخلافاً للقائلين بالدلالة على المرّة أو على التكرار، والدليل على ذلك أمران: الأول: التبادر، فإنّ المنسبق إلى الأذهان هو الأمر بالطبيعة معرّىً عن المرّة والتكرار، ألا ترى أنّ الصيغة إذا قيدت بالمرّة أو التكرار مثل (أكرم مرّة) و(أكرم مكرراً) فإنّه لا يبدو في رأي الناس أن أياً من القيدين تأكيد لمضمون الصيغة، فلو كانت الصيغة تدلُّ على أيّ من القيدين كان المفروض أن يبدو المقيّد في رأي العرف مؤكّداً لما تدلُّ عليه الصيغة، فاستعمالها في أيّ من القيدين متساوي، ولا تُراعى العلاقة والادعاء في أي منهما، فلا تراعى العلاقة عند إرادة استعمال الصيغة في المرّة ولا تراعى العلاقة عند استعمالها في التكرار، ولا نرى مجالاً لباب المجاز فيما لو قال: (سلّم عليهم مرّة) أو قال: (سلّم عليهم مرّات). الثاني: دلالة الصيغة على أحدهما إمّا بالمادة وإمّا بالهيئة، فالمادة موضوعة للطبيعة لا بشرط قطعاً كما هو الحق، وقد مرّ ذلك في باب المشتق، فقد قيل هناك: مادة المشتقات وضعت للطبيعة لكي تنسجم مع جميع الهيئات، ألا ترى أنّ المرّة والتكرار لا اختصاص لهما بصيغة الأمر، وينبغي أن يأتيا في جميع المشتقات، مع أنّه لا مرّة ولا تكرار في البقية قطعاً. والهيئة تدل أو وضعت لإنشاء الطلب أو إنشاء البعث، وعلى المبنيين فالطلب والبعث بحاجة إلى مقدمات ومبادئ، ومن المبادئ الإرادة والشوق والحب، والأخيران لا يضمان التكرار تجاه شيءٍ واحدٍ، فالطبيعة لا بشرط، فإذا تعلّق حب الإنسان وإرادته لشيء مرّتين فعلى الطبيعة أن تقيّد لكي تنسجم مع التكرار، وإلاّ فلا يعقل أن يتعلّق حبّي بالطبيعة الواحدة مرتين. هذا، مضافاً إلى أنّه بمراجعة الارتكاز نفهم عدم التكرار في إنشاء الطلب، وتكرّر القيد مطلوب لأجل حصول التكرار لا تكرر قيد الإنشاء والطلب، فإذا أردت أن يكرّر السلام لا داعي لك أن تكرّر الطلب والإنشاء، فإنّ انشاء طلب واحد قد يتعلّق بالتسليم عدّة مرّات. إن قلت: صحيح أنّ المادة لوحدها أو الهيئة لوحدها لا يدلان على المرة والتكرار، لكن مجموعهما موضوع للمرّة أو التكرار. قلت: هذا الاحتمال مدفوع وغير تام من حيث لزومه اللغوية المستبعدة عن واضع حكيم، والمراد من الواضع هو عموم الناس، فيستبعد أن يصدر اللغو من عقلاء الناس، فأنّ المرّة والتكرار تُستفاد من القيود الاُخرى فما الداعي لوضع المجموع تارةً اُخرى لهذا الأمر، مع أنّه بالإمكان استفادته من قيود اُخرى. مضافاً إلى أنّه قطعي البطلان؛ لأنّه لم يقل بالوضع للمجموع أحد من أصاغر الاُدباء فضلاً عن أصاغر الاُصوليين. ثمّ أنّ لصاحب (الفصول) كلام ادّعى فيه أنّ الاختلاف في هذا الشأن خاص بالهيئة، وأنّ هناك إتفاقاً وإجماعاً على أنّ المصدر المجرّد عن اللام والتنوين لا يدلّ إلاّ على الماهية على ما حكاه السكاكي[1]. فالمصدر لا يدلّ على غير الطبيعة لا بشرط، ولا يدل على المرّة ولا على التكرار، وإذا كان دالاً على الطبيعة بالإجماع فنستنتج الإجماع والإتفاق على دلالة مادة المشتقات على أصل الطبيعة. يشكل صاحب (الكفاية) على الكلام المتقدّم ويقول: (ثم لا يذهب عليك أنّ الاتفاق على أنّ المصدر المجرّد عن اللام والتنوين لا يدلّ إلاّ على الماهية ـ على ما حكاه السكاكي ـ لا يوجب كون النزاع هاهنا في الهيئة ـ كما في (الفصول) ـ فأنّه غفلة وذهول عن كون المصدر كذلك، لا يوجب الإتفاق على أنّ مادة الصيغة لا تدلُّ إلاّ على الماهية، ضرورة أنّ المصدر ليست مادة لسائر المشتقات، بل هو صيغة مثلها، كيف؟ وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى، فكيف بمعناه يكون مادة لها؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرّة أو التكرار في مادتها، كما لا يخفى)[2]. نحن نعلم أنّ للمصدر معنىً يأبى عن الحمل، فزيدٌ عدلٌ غلط إلاّ من باب المبالغة، لكن (ضَرَبَ زيد) و(زيدٌ ضارب) صحيح، مع أنّ المشتقات ذات معانٍ تقبل الحمل. وعلى هذا، يكون إيراد صاحب (الكفاية) غير تام، ولا يخفى عليك أنّ المكلّف إذا جاء بالمأمور به مرّة واحدة سقط الأمر، لا من باب دلالة اللفظ فاللفظ يفيد الطبيعة، بل من باب حكم العقل بأنّ الطبيعي يوجد بوجود فردٍ ما. هاهنا أُمور: الأمر الأول: ما المراد من المرّة والتكرار؟ هل المراد الفرد والأفراد أو الدفعة والدفعات؟ الفرق بينهما واضح من حيث إنّ المعيار إذا كان حركة أو حركات كان دفعة ودفعات، وفي الفرد والأفراد ليس المعيار الحركة أو الحركات، فقد يوجد أفراد بحركة واحدة، وعلى هذا تكون النسبة بين الأفراد والدفعة عموم وخصوص مطلق، فكل فرد قد يكون دفعة لكن ليس كل دفعة فرداً واحداً بل قد تكون أفراداً، كما قد يكون الأفراد دفعات، فيأتي بأفراد عديدة دفعة واحدة، والأفراد قد يكونون في دفعات وقد يكونون على سبيل دفعة واحدة. وإن شئت قلت: الأفراد طوليون في الدفعات؛ لأنّ أزمنتهم مختلفة أحدهم يسبق الآخر وكلٌّ في رتبة، أمّا في الأفراد ذاتهم فقد تكون العلاقة بينهم طولية وقد تكون عرضية، فقد يأتي الشخص بفردٍ اليوم وقد يأتي غداً بفردٍ آخر. -------------------------------------------------------------------------------- [1] - الكفاية: 77. [2] - الكفاية: 77 ـ 87.
|