الأوامر (درس56)
الدرس دروس خارج الأصول مباحث الدليل اللفظي الدرس 56 التاريخ : 2008/12/21 بسم الله الرحمن الرحيم الأمر الثاني: إذا أمر المولى بالطبيعي ـ بناءً على دلالة الأمر لا على المرّة ولا على التكرار بل على أصل طلب الماهية ـ فللأمر نحوان فقد يكون مطلقاً ويكون المولى في مقام البيان، وقد لا يكون مطلقاً ولم يكن المولى في مقام البيان، بل كان في مقام بيان وجوب الجمعة ـ مثلاً ـ إجمالاً ولا شأن له بالمرّة والتكرار وليس في مقام بيان ذلك. عندئذٍ يكون الإتيان بفرد واحدٍ واجب ولازم قطعاً؛ لأنّه القدر المتيقن سواء كان يريد المرة أو التكرار. وعموماً كلّما أمر المولى بالطبيعي ولم يكن أمره ذا إطلاق، ولم يكن المولى في مقام البيان بل في مقام الإهمال أو الإجمال، أو أنّه كان غافلاً كان الإتيان بالفرد الواحد واجباً؛ لأنّ الحق هو كون الأمر لا يدل على المرّة ولا على التكرار، مع أنّه ليس لدينا ظهور لفظي وفرضنا عدم وجود الإطلاق، ولذلك نرجع إلى الأصل العملي بالنسبة إلى ما زاد عن الفرد الواحد، والأصل هنا هو البراءة عن الأفراد الطولية؛ لأنّ الشك عندئذٍ في الواجب الزائد، فهو من قبيل إتياني بصلاة الجمعة وشكي في وجوب الإتيان بها تارةً اُخرى، أو جئت بإناء من الماء للشرب ثم شككت في وجوب الإتيان بإناء آخر، فالشك هنا شك في التكليف وهو مجرى للبراءة. لا يمكن القول بأنّ الشك في التكليف شك في المكلّف به، ومن هنا يظهر ضعف ما جاء في (محاضرات في اُصول الفقه)[1] حيث قال: (كلما شككنا في الأفراد كان شكنا مجرى للبراءة سواء كانت الأفراد طولية أو عرضية) وهذا يبدو لنا غير تام، فالأفراد الطولية تكون مجرى للبراءة، أما العرضية والدفعية فحسب المبنى في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، فإذا قيل بالبراءة هناك كان الحكم البراءة هنا كذلك وإذا قيل بالاشتغال هناك كان الحكم الاشتغال هنا كذلك، فنحن نشك هنا في أنّ المطلوب منّا فرد واحد أو الأفراد جميعاً، وعلى الأخير يكون الإتيان بفرد واحد كعدم الإتيان. الأمر الثالث: يصحُّ الأخذ بإطلاق المأمور به فيما إذا كان التقييد ممكناً، أي أنّا نحكم بإطلاق موضوع أو متعلّق الحكم أينما أمكن التقييد للمولى ولم يقيّد، فالعقل يدرك ويحكم بحجية الإطلاق وتماميته فيما إذا أمكن التقييد، ولا يحكم بتمامية الإطلاق فيما إذا لم يمكن التقييد، فالعقل يتمُّ الحجة مع القدرة لا بدونها، وهذا هو المدّعى هنا وهذا دليله، وهو مختار المحقّقين مثل صاحب (الكفاية)[2] والمرحوم النائيني[3] والإمام الخميني[4] وكذلك آخرين. ثم أنّه طبّقوا هذه الكبرى الكلية على ما نحن فيه، فإذا قيل بامتناع أخذ قصد القربة في المأمور به كان التمسك بالإطلاق غير صحيح، أما بناءً على ما ذهبنا إليه من عدم المانع من أخذ قصد القربة في المأمور به فالإطلاق ـ عندئذٍ ـ يكون صحيحاً. إذن، هناك قاعدة كلية ومورد للانطباق على هذه القاعدة. لكن نقل عن الشيخ الأعظم قوله: (إذا ثبت امتناع التقييد وجب الإطلاق)[5]. بينما نقول نحن: إذا ثبت امتناع التقييد امتنع الإطلاق. أرادالسيد الخوئي ـ رحمه الله ـ في (محاضرات...)[6] تبرير كلام الشيخ الأعظم حيث قال: (وأمّا الدعوى الثانية ـ وهي استحالة التقييد تستلزم ضرورة الإطلاق أو ضرورة التقييد بخلافه ـ فلأنّ الإهمال في الواقعيات مستحيل، وذلك لأنّ الغرض الداعي إلى جعل الحكم واعتباره لا يخلو من أن يقوم بالطبيعي الجامع بين خصوصياته من دون مدخلية شيء منها فيه، أو يقوم بحصة خاصة منه ولا ثالث لهما، فعلى الأول لا محالة يلاحظ المولى في مقام جعل الحكم واعتباره على نحو الإطلاق. وعلى الثاني لا محالة يلاحظ تلك الحصة الخاصة منه فحسب. وعلى كلا التقديرين فالإهمال في الواقع غير معقول فالحكم على الأول مطلق، وعلى الثاني مقيّد، ولا فرق في ذلك بين الانقسامات الأولية والثانوية، بداهة أنّ المولى الملتفت إلى انقسام الصلاة مع قصد الأمر وبدونه خارجاً، وفي الواقع بطبيعة الحال إمّا أن يعتبرها في ذمّة المكلّف على نحو الإطلاق، أو يعتبرها مقيّدة بقصد الأمر، أو مقيّدة بعدم قصده، ولا يتصور رابع؛ لأنّ مردّ الرابع إلى الإهمال بالإضافة إلى هذه الخصوصيات وهو غير معقول، كيف حيث إنّ مرجعه إلى عدم علم المولى بمتعلّق حكمه أو موضوعه من حيث السعة والضيق وتردده في ذلك، ومن الطبيعي أنّ تردّده فيه يستلزم تردده في نفس حكمه وهو من الحاكم غير معقول، وعندئذٍ إذا افترضنا استحالة تقييدها بقصد الأمر فبطبيعة الحال تعين أحد الأمرين الآخرين هما الإطلاق أو التقييد بخلافه، وإذا فرضنا أنّ التقييد بخلافه أيضاً مستحيل كما هو كذلك، حيث إنّ الغرض من الأمر هو كونه داعياً فلا معنى لتقييد المأمور به بعدم كونه داعياً فلا محالة يتعيّن الإطلاق. وعلى الجملة فلازم ما أفاده ـ قدّس سرّه ـ من أنّ استحالة التقييد في مورد تستلزم استحالة الإطلاق فيه إهمال الواقع وأنّه لا يكون مقيداً به ولا يكون مطلقاً، وقد عرفت أن مرجع هذا إلى عدم علم الحاكم بحدود موضوع حكمه أو متعلّقه من حيث السعة والضيف وهو غير معقول...)[7]. حاصل كلامه: يقول الشيخ: إذا امتنع التقييد حكمنا بالإطلاق، ونحن نقول: الإطلاق فرع التقييد، وأنّ موضع البحث صغرى لتلك القاعدة، بينما هو يقول: إنّ موضع البحث ليس صغراه، وهذا كلام جديد ترجع جذوره إلى الشيخ. ينقل السيد عن اُستاذه المرحوم النائيني أنّ الأخذ بالإطلاق في قصد القربة غير صحيح، مستدلاً على ذلك بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل الملكة وعدمها، وعندئذٍ لا يصدق العدم إلاّ في مكان ذات قابلية، فالأعمى لا يطلق على الحجر الذي لا قابلية له على البصر[8]. ثم يُشكل السيد على اُستاذه بالنقض أولاً وبالحل ثانياً ويقول: (أمّا الدعوى الاُولى فهي خاطئة نقضاً وحلاً. أمّا نقضاً فبعدة موارد منها: أنّ الإنسان جاهل بحقيقة ذات الواجب ـ تعالى ـ ولا يتمكن من الإحاطة بكنه ذاته ـ سبحانه ـ حتى نبينا محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وذلك لاستحالة إحاطة الممكن بالواجب، فإذا علم الإنسان بذاته ـ تعالى ـ مستحيلاً لكان جهله بها ضرورياً مع أنّ التقابل بين الجهل والعلم من تقابل العدم والملكة، فلو كانت استحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر لزم استحالة الجهل في مفروض المقام، مع أنّه ضروري وجداناً. ومنها: أنّ الإنسان يستحيل أن يكون قادراً على الطيران في السماء مع أنّ عجزه عنه ضروري وليس بمستحيل، فلو كانت استحالة أحد المتقابلين بتقابل العدم والملكة تستلزم استحالة الآخر لكانت استحالة القدرة في مفروض المثال تستلزم استحالة العجز، مع أنّ الأمر ليس كذلك. ومنها: أنّ كلّ أحدٍ يستطيع مثلاً حفظ صفحة أو أكثر من أي كتاب شاء وأراد، ولكنه لا يستطيع حفظ جميع الكتب بشتى أنواعها وفنونها، بل لا يستطيع حفظ مجلدات البحار مثلاً أجمع، وهذا لا يستلزم خروجه عن القابلية بتاتاً، وأنّه لا يستطيع حفظ صفحة واحدة أيضاً ببيان أنّ استحالة أحد المتقابلين بتقابل العدم والملكة تستلزم استحالة الآخر بداهة أنّ استطاعته لحفظ صفحة واحدة ضرورية. وأمّا حلاً فلأنّ قابلية المحل المعتبرة في التقابل المذكور لا يلزم أن تكون شخصية في جزئيات مواردها، بل يجوز أن تكون صنفية أو نوعية أو جنسية. ومن هنا ذكر الفلاسفة أنّ القابلية المعتبرة بين الأعدام والملكات ليست القابلية الشخصية بخصوصها في كلّ مورد، بل الأعم منها ومن القابلية الصنفية والنوعية والجنسية حسب اختلاف الموارد والمقامات، فلا يعتبر في صدق العدم المقابل للملكية على موردٍ أن يكون ذلك يكفي في صدقه عليه أن يكون صنف هذا الفرد أو نوعه أو جنسه قابلاً للاتصاف بالوجود وإن لم يكن شخص هذا الفرد قابلاً للاتصاف به. ويتّضح ذلك ببيان الأمثلة المتقدّمة فأنّ الإنسان قابل للاتصاف بالعلم والمعرفة، ولكن قد يستحيل اتصافه به في خصوص موردٍ لأجل خصوصية فيه، وذلك كالعلم بذات الواجب ـ تعالى ـ حيث يستحيل اتصاف الإنسان به مع أن صدق العدم ـ وهو الجهل ـ عليه ضروري، ومن الطبيعي أنّ هذا ليس إلاّ من ناحية أنّ القابلية المعتبرة في الأعدام والملكات ليست خصوص القابلية الشخصية، وكذلك الحال في المثال الثاني...)[9]. الإشكال الثاني هو أنّ تقابل الإطلاق والتقييد هو تقابل الملكة وعدمها، لكن ذلك وفقاً لبعض المباني أمّا التي تعتبر الإطلاق عبارة عن لحاظ اللابشرط فلا يكون التقابل تقابل الملكة وعدمها بل تقابل التضاد، فالإطلاق ـ بناءً على هذا ـ هو لحاظ السريان لا بشرط، والتقييد هو لحاظ القيد، وهذا المبنى كان قبل سلطان العلماء. فالتقابل من سنخ التضاد عند الذي يعتبر الإطلاق لحاظ السريان، والتقيّد هو لحاظ القيد، أي أنّه يعتبر الإطلاق تقييداً كذلك لكنه تقييد بعدم القيد، والمقيّد هو الملحوظ فيه القيد، وعلى هذا يكون التقابل تضاداً. أما بالنسبة للذي يقول بأنّ الإطلاق هو عدم لحاظ القيد حتى قيد عدم القيد والقيد اللا بشرطي، والقيد عبارة عن التقيّد، فيكون التقابل بناءً على هذا من باب الملكة وعدمها، وهذا يشبه اللا بشرط المقسمي وهذا التفسير للإطلاق والتقييد تبلور منذ زمن سلطان العلماء فما بعد عكس ما عليه الذين سبقوا سلطان العلماء حيث يكون التقابل من سنخ التضاد وفقاً لمبناهم. -------------------------------------------------------------------------------- [1] - محاضرات في أصول الفقه 2: 208. [2] - الكفاية: 75. [3] - فوائد الاُصول 1 ـ 2: 155. [4] - تهذيب الاُصول 1: 47. [5] - مطارح الأنظار: 58 ـ 59 [6] - محاضرات في اُصول الفقه 2: 178. [7]- محاضرات في اُصول الفقه 2: 177 ـ 178. [8] - محاضرات في اُصول الفقه 2: 174.
|