موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: ذكريات لم تنشر عن الإمام لسماحة الشيخ آية الله العظمى يوسف الصانعي
المرجعية بمثابة المؤسسة (3)ذكريات لم تنشر عن الإمام لسماحة الشيخ آية الله العظمى يوسف الصانعي
ذكريات لم تنشر عن الإمام لسماحة الشيخ آية الله العظمى يوسف الصانعي
قبل استقراري في مدينة قم المقدسة وفي عام (1325 هـ. ش) دخلت مدينة أصفهان وبدأت دراسة كتاب (جامع المقدمات). كنت آنذاك حدثاً وتزامن ذلك مع رئاسة وزراء (قوام). كانت الحوزة العلميّة في أصفهان تدار في ذلك الزمان من قبل ثلاث مراجع عظام، هم: المرحوم الحاج الشيخ مرتضى الاردكاني، والمرحوم الحاج السيد حسين الخادمي، والمرحوم الحاج الشيخ محمد رضا جرقويه الأصفهاني.
أتذكر جيداً كيف أن جموعاً كبيرة من طلاب الحوزة انطلقوا من مدرسة الصدر ليتحصّنوا في إدارة البريد (تلگراف خانه) حيث صدرت الأوامر بإطلاق الرصاص عليهم وسقط في هذه الحادثة الشيخ المرحوم الحاج محمد رضا جرقويه إذ قاموا بضربه بأعقاب البنادق إلى أن استشهد بسببها. لقد شاهدت هذه الحوادث ودرست في أصفهان في هكذا ظروف وكنت متابعاً للقضايا السياسيّة. إلى أن حان عام (1330 هـ. ش) حيث أكملت جامع المقدمات وذهبت إلى مدينة قم المقدسة. لم يمض عليّ سوى أشهر حتى تعرّفت على شخصيّة الإمام الخميني (سلام الله عليه)، لقد كان أحد أصدقائي يحضر في درس الأصول للإمام، إذ كانت له معرفة بأخي، وهذا الشخص كان يمتدح الإمام كثيراً وخاصة لتيسر الأصول.
في تلك الأيام كانت الشائعات متأججة ضد شخصية الإمام حيث كانوا يوجّهون إليه الافتراءات والتُهم بغية إقصائه عن عنوان الفقاهة، ليحولوا دون وصوله لمقام الأعلميّة في الحوزات، لقد كانت هذه الخطط ترسم من قبل الأعداء المغرضين والأصدقاء الجهلة، وأنا ولكوني حديث العهد بالحوزة فقد كنت أخشى الحضور في بحوث الإمام خوفاً من إتلاف الوقت لذا كنت ولمدة وجيزة أحضر في بحوث الإمام البروجردي. والسبب هو تلك الشائعات التي كانت تروّج ضد الإمام فقد أشاعوا بان بحوث الإمام الأصوليّة جيدة لكن بحوثه الفقهية رديئة، أتذكر في عام (1334 أو 1335) ذهبت إلى الشيخ فكور للاستخارة حيث أجابني قائلاً: أنت إمّا ترغب في الرحلة إلى العتبات المقدسة أو إلى الحضور في قاعات الدرس، فانك ستستفيد كثيراً لكنك ستصطدم مع أشخاص يختلفون معك في الآراء والمباحثة، أجبته أرغب في الحضور في دروس الإمام الخميني. قال: جيد جداً، لكنك ستختلف مع أصدقائك في الآراء والمباحثة، فأجبته حسب تفكيري آنذاك، سأحاول ان لا اختلف مع أصدقائي.
شاركت في دروس الإمام بصورة منتظمة وكنا نتباحث ولا اخفي عليكم بأننا كنا نختلف كثيراً في آرائنا حتى كان صوتنا المرتفع يزعج الآخرين لكنه كان مفيداً في الوقت نفسه.
كنت احضر في دروس الأصول للإمام كما وكنت أحضر في دروسه الفقهية حيث لمست فيها دقته الكبيرة واستنتجت من خلالها السبب الذي دعى المغرضين يروجون الإشاعات حوله لمنعه من نيل مقام الفقاهة لذا صمّمت بأن أبيّن مقامه الفقهي، وكان متداولاً في ذلك الوقت بان الطلاب يجلسون في الدروس ويبيّنون وجهات نظرهم حول موضوع ما، وقد كنت أطوى الخطى رائحا جائيا في ساحة الفيضية لأبيّن نظراته الفقهيّة وبصوت مرتفع لأبرهن على مدى حقانية ما يطرحه من أفكار في مسجد السلماسي حيث ينبع كلامه من مستواه الحوزوي والفقهي حيث يتغلب عليه طالع الحداثة والإبداع، إنّ هذه العوامل هي التي تسببت في جعلي آنس بأفكاره ورؤاه فوصل بي الحد في أن أرحب بضيوف الإمام الوافدين إليه في أيام العزاء والوفيات والأعياد.
لقد توطدت علاقتي بالإمام بمستوى اكسبني الجرأة في طرح الشبهات على سماحته، حيث قلت مرة في احد الدروس أيها السيد عندي إشكال، فأجابني الشهيد سعيدي: قل عرض عليّ خطأ. حيث الآداب تتوجب ذلك وقد كنت أورد التساؤلات المختلفة ولمدة قاربت ثمان سنوات كنت أسأل وأسال وكان يجيبي بفارغ الصبر ودون أي انزعاج أو ملل، والآن عرفت لماذا كان يتحمل كل هذا، كان هدفه تربية التلامذة الذين يخدمون مصالح الإسلام والتشيع.
ومرَّ الزمان وتوفي السيد البروجردي حيث لم يكن هناك دور للنقابات الموجودة حالياً بل كان المطروح آنذاك هو مرجعيّة الإمام. كنت في أحد المرّات بمعيّة الإمام حيث ذهبنا إلى مرقد القاسم حيث نظمت زماناً للقاء الإمام مع أحد أهالي المنبر من مدينة مشهد المقدسة فتحدثا عن مواضيع شتى، وعندما ذكر فيها هذا الشخص كلاماً بخصوص المرحوم السيد الميلاني، أجابه الإمام بهيبته المألوفة: لا تمد ساقيك أكثر من بساطك، وقام وانصرف. بوغت الرجل من موقف الإمام فتدخلت قائلاً: ان الإمام لا يسمح لأي شخص أبداً في أن ينال من الشخصيات الدينية أو يغتاب أحداً أمامه، رغم أنَّ هذا الرجل كان يتمكن من الترويج لصالح مرجعية الإمام وبصورة مؤثرة جداً.
أتذكر أن أحد رجال الدين المرتبطين بحكومة الشاه قال يوماً للإمام: ان الحكومة تريد أن تُرفع من مستوى أحد العلماء بعد وفاة البروجردي ثم تضربه أرضاً حتى لا يجرأ أحد بعد ذلك للوقوف بوجه الحكومة والشاه وهذا العالم ليس إلاّ أنت.
فأجابه الإمام: قل لهم ان هذه العباءة التي تخيطونها ليست بمقاسي لكنكم إن أخطتموها لي، فانك لا ترون بعدها راحة. فأجابه رجل الدين المرتبط بالشاه: وكيف لا يتمكنون من ذلك، الم تر كيف فعلوا بالكاشاني؟!
فأجابه الإمام: ان الكاشاني لم يترعوع في الحوزة، أمّا أنا فقد ترعرعت وكبرت في الحوزة، انهم يتمكنون من إبادة الفرد الواحد لكنهم لا تمكنون من إبادة الحوزة.
هكذا كان الإمام يفكر وهكذا كان يهتم بالحوزة ورجال الدين، عندما كان الإمام يسمع باهانات توجَّه إلى رجال الدين كان يتأذى كثيراً، أتذكر يوماً أن السيد أحمد الخوانسازي تعرّض للضرب في مدينة طهران فقال الإمام آنذاك: إذا كانت دماء الحسين تجري في عروقي، فانا لن اسكت عن ذلك حتى أُبيدهم.
لم يكترث الإمام للشاه وكانت هذه أهم أُسسه الفكرية، رغم ان الشاه كان يتراسل مع كبار الحوزة كانوا يتبادلون معه الرسائل كذلك كما وكان الأكثريّة يهتمون باللقاء مع الشخصيات السياسيّة لكن الإمام لم يهتم بهذا أبداً. أتذكر آنذاك أن المرحوم (بدلا) أخبر السيد أميني برغبته في اللقاء مع الإمام، فقبل الإمام بذلك حيث استقبله في غرفة مليئة بالمراجعين ليثبت له بأنه سواسيّة مع الغير وليس له شان أعلى من شأن علماء الحوزة. وأخيراً جاءت فكرة النقابات واعتقل الإمام ونفي بعد ذلك إلى تركية.
من الخصائص التي امتاز بها الإمام هو عدم تأييده الإرهاب حتى أنه كان يخالف اغتيال (رزم آرا) وهذا ليس معناه انه كان يوافق مبادىء (رزم آرا) بل كان معناه مخالفته لسياسة الاغتيال واستخدام الأسلحة، أتذكر جيداً ان الإمام كان يلتقي بجماعات من أهالي طهران حيث كانوا يبدون استعدادهم للتضحية والجهاد لكنهم لم يتجرّأوا أبداً على إبداء آرائهم بشأن اغتيال عملاء الشاه لانهم كانوا يعرفون رأي الإمام جيّداً حول رفضه للإرهاب والاغتيال كما ورفض الإمام فكرة اغتيال حسن علي منصور وحينما سمع الإمام باغتيال كسروي وهجير اكتفى بهذه العبارة قائلاً:
رحمهم الله وغفر لهم.
لم اسمع أبداً بان الإمام كان موافقاً على الإرهاب والاغتيال لكنه في الوقت نفسه وحينما نُفي المرحوم الكاشاني من قبل حكومة الشاه وفرضت الإقامة الجبرية على علماء الدين قام الإمام بتعطيل درس الأصول وعيادة المرحوم الكاشاني، رغم ان المدرسة الفيضية وطلاب الحوزة في قم المقدسة وفي ذلك الزمن كانوا ينشدون ضد الكاشاني.
هذه ذكريات من مجموعة ذكريات ستقوم المعاونية الثقافية لمؤسسة الثقلين التابعة لمكتب آية الله الشيخ الصانعي بطباعتها مستقبلاً في كتاب خاص. التاريخ : 2007/11/14 تصفّح: 12854