موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: الربا الاستثماري، نقد نظرية حرمة الفائدة البنكية
مجلة نصوص معاصرة فصلية تعنى بالفكر الديني المعاصرالربا الاستثماري، نقد نظرية حرمة الفائدة البنكية
سماحة آية الله العظمى الشيخ يوسف الصانعي(*)
ترجمة: حيدر حب الله
تثير هذه الدراسة اليوم في الأوساط العلمية الإيرانية جدلاً، سيما مع إفتاء صاحبها بمضمونها، بدورها ستحاول (نصوص معاصرة) إرفاد القرّاء بمستجدّات الجدل، وسوف تترجم نقداً عليها عندما يتوفر في الساحة الإيرانية، ونرشد القارئ إلى أربع دراسات نشرت في مجلّة فقه أهل البيت عليهم السلام، اشتملت جدلاً من هذا النوع بين الدكتور موسى غني نجاد والسيد عباس موسويان، فليراجع لعموم الفائدة.
مقدّمة
يدين الفقه الإسلامي ـ الذي يستمدّ حياته ونضارته من القرآن والسنّة ـ طيلة عمره الذي تجاوز الألف عام لجهود الفقهاء والمجتهدين، ولم يتمكّن هذا الفقه طيلة هذا الزمان الطويل من ترك بصماته على حياة المسلمين فحسب، بل أثار دهشة المدارس الحقوقية الأخرى كلّما حصل اقترابٌ منها أو تقارب.
إن حياة هذا الفقه ونضارته إنّما يتحققان في سياق الاجتهاد الحقيقيّ الحيّ والحيويّ للفقهاء، فإذا ما مارس المجتهدون الاجتهاد، ولم يقبعوا في جمود الأخبارية، بل بذلوا قصارى جهدهم، ووظّفوا تمام طاقاتهم وإمكاناتهم، متجنّبين الاكتفاء ببعض المصادر الروائية والفقهية، وهو ما كان سائداً ومتعارفاً في أوساط الفقهاء الحقيقيّين، لأضافوا كلّ يوم على هذا الفقه الإسلامي الشيعيّ غنىً، وبثوا فيه روحاً جديدة و... نعم، يكون ذلك بمطالعة ذلك التراث العريق الألفيّ للفقه من جهة، كما وإحضاره في خضمّ التحوّلات العاصفة في حياة الإنسان، بما فيها من تأرجحات ونجاحات وإخفاقات.
إنّ اهتمام الفقهاء بالثغرات التي يعاني منها الفقه والحاجات، والاستفادة من الاختصاصات ذات التأثير في عملية الاجتهاد، ووضع حدود فاصلة بين احترام الفقهاء الماضين وبين تناول أفكارهم ونظريّاتهم الفقهية بالنقد والمناقشة، وتجنّب الانشغال وإغراق الذات في الفروع الفقهيّة النادرة، قليلة الابتلاء، إلا عندما تمسّ الحاجة إلى ذلك أو الاستفتاء.. ذلك كلّه، من العوامل المؤثرة في ترشيد النشاط الفقهي، ورفع شأو الفقه ومكانته.
إنّ تطوّر العلوم والتقانة من جهة، وانبساط العلاقات البشرية حتى تقاربت معها أنماط الحياة وأشكال العيش من جهة أخرى، يلحّان على الفقه الإسلامي بأسئلة جادّة لا مفرّ له من مواجهتها، ولا يكفي في هذا المضمار بعض الأجوبة النمطية أو إحالة القضايا إلى التعبّد في المجالات جميعها، لهذا كان واجباً على الفقهاء المتمسّكين بالاجتهاد الحقيقي، تقديم أجوبةٍ ذات قوّة إقناعيّة عالية، وذلك لإشباع العقول الفاحصة، والأذهان الباحثة عن الحقيقة، لا المتكبّرة المعاندة.
إننا نعتقد أنّ الفقه الإسلامي ـ الشيعي يملك من القدرة ما يستطيع به تقديم هذا النوع من الأجوبة، إنّه قادر على الخروج مرفوع الرأس من مسؤولية المعضلات العالقة والاستفهامات الكبيرة برمّتها، شريطة أن تؤخذ أصول الاجتهاد بعين الاعتبار.
مبادئ الاجتهاد الحراكي
ونحاول هنا ـ بدايةً ـ استعراض جملةٍ من المبادئ التي نؤمن بها ونعمل على وفقها، وهي المبادئ عينها التي وظّفناها في كتابتنا هذه:
1 ـ مبدأ اليُسر والسماحة
اعتقد كبار فقهاء الإسلام على الدوام بأنّ القرآن الكريم هو المصدر الأوّل للاجتهاد، ولم يغفلوا في فتاويهم الفقهية عنه، إننا نعتقد أنّه كلّما تضاعف اهتمامنا أكثر بالآيات القرآنية، وزاد وتعمّق، اقترب الاجتهاد ودنت الفقاهة من الحقّ والصواب، وهو ما سيؤدّي ـ تلقائياً ـ إلى تلاشي الكثير من الفتاوى والاجتهادات المخالفة ليُسر القرآن وسماحته، أو غير المؤهّلة للتنفيذ والتطبيق.
يؤكّد القرآن الكريم في آيات عدّة، وفي سياق بيانه للأحكام الشرعية، على مبدأ اليُسر والسماحة، وبعبارة أخرى: إنّه يقوم بتشييد مبدأ إمكانية التطبيق، وإذا أردنا تناول أحد الأمثلة على ذلك هنا للاحظنا كيف تحدّث الله تعالى في ستّ آيات عن تيسير القرآن ـ بشكل عام ـ وتسهيله، قال تعالى:
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)(سورة القمر: 17) (1)، كما سهّل الطريق: ( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) (سورة عبس: 20)، كما تحدّثت بعض الآيات عن التيسير والتسهيل، لدى حديثها عن تلاوة القرآن(2)، وذبح الأضحية في الحج(3)، مقعّدةً قانوناً عاماً بقولها: ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ...) (سورة البقرة: 185).
إننا نعتقد بأنّ اليسر والعسر بإمكانهما أن يكونا معايير حقيقيّة لتقويم اجتهاداتنا الفقهية، ذلك أنّ الكلام المذكور كلام خالد، جامع، وعام أيضاً، ومن ثمّ، لابد أن يستوعب تمام التساؤلات ليجيب عنها، ولن يكون لضمّ هذا الأمر مع سائر الأحكام الثانوية ومع الاضطرار والضرورة تأثير على الحكمة من التشريع.
وعليه، فالأحكام الإلهية يمكنها ـ في تحليلها الأوّلي ـ استيعاب أكثر المجالات لوضعها موضع التنفيذ، وهي غير قابلة ـ سوى في حالات خاصّة ونادرة ـ للاستثناء، وهذا هو معنى اليُسر القرآني في التشريع.
2 ـ مبدأ النقد المضموني للسنّة الشريفة
السنّة الشريفة هي المصدر الثاني من مصادر الفقاهة والاجتهاد والمعرفة الدينية، فلا سبيل أمام الاجتهاد لكي يتبلور ويظهر للعيان سوى أن يمارس الفقيه فيه البحث والتنقيب جادّاً في الروايات والأحاديث، إلاّ أنّه حيث كان للوضع والدسّ ـ طوال التاريخ الإسلامي ـ مجاله الرحب على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) انطلاقاً من دوافع مختلفة، كان رصد الأحاديث ودراستها وتمييزها قسماً هاماً من الفعل الاجتهادي.
جاء في رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «قد كثرت عليّ الكذّابة وستكثر، فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار...» (4).
كما أكّد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ـ وبتعابير مختلفة ـ على هذا الأمر، من قبيل ما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّا أهل بيت صادقون، لا نخلو من كذّاب يكذب علينا، ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس»(5).
ويذكر هشام بن الحكم أنّه سمع الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة، فإنّ المغيرة بن سعيد ـ لعنه الله ـ دسّ فى كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي، فاتقوا الله، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى، وسنّة نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) »(6).
والسبيل الأفضل لكشف الأحاديث المجعولة الموضوعة إنّما يكمن في نقد المتن، أي ما عبّرت عنه النصوص عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) بالعرض على الكتاب، إنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يشير في الرواية السالفة الإشارة إليها إلى أنه لا ينبغي الأخذ بأيّ حديث إطلاقاً، ومن ثم نسبته إليهم (عليهم السلام) قبل عرضه على الكتاب الكريم والسنّة الشريفة.
وقد جاء في مصادر أهل السنّة عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «سيأتيكم عنّي أحاديث مختلفة، فما جاءكم موافقاً لكتاب الله ولسنّتي فهو منّي، وما جاءكم مخالفاً لكتاب الله ولسنّتي فليس منّي»(7).
وثمّة روايات كثيرة أخرى في هذا المجال، نعرض ـ فعلاً ـ عن ذكرها، اكتفاءً بما أسلفناه.
ومن الطبيعي، أنّه لا يجدر في هذا المضمار إغفال الدراسات السندية والرجاليّة، فلعلم الرجال سهمٌ وافر في تقويم الأحاديث من حيث صدورها، وتحديد مدى صحّة نسبتها أيضاً، إلاّ أنّ الاكتفاء به لا يحمي الفقيه من الأخطاء والهفوات في ممارساته الاجتهاديّة، كما لا يحميه من الهوي في فخّ الأحاديث المدسوسة والموضوعة؛ ذلك أنّ الكاذب لا يجعل الحديث ويسنده إلى من هو معروف بالكذب، بل ينشره بما يوهم عدم وجود خدشةٍ في سنده، تماماً كمن يريد تزوير العُملات، فإنّه يسعى لصنع أوراق نقدية تحتوى خصائص الأوراق النقديّة الصحيحة من حيث اللون والشكل والمواصفات، وإلا لاكتشفت العملة المغشوشة بسرعة ودون مقدّمات تذكر.
إننا نعتقد أنّ الفقيه يقارب الصواب ويدنو منه ويحقق اجتهاداً ناجحاً وموفّقاً كلّما ركّز جهوده على النقد المضموني، أي على عرض الأخبار على الكتاب، كما ووضع الأصول والمبادئ المسلّمة المستمدّة من القرآن والحديث موضع المعيار والاهتمام.
3 ـ مبدأ انفتاح الاجتهاد وعدم حجية الشهرة
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه»(8).
طبقاً لهذا النصّ النبوي، يغدو تعدّد الآراء وتنوّعها، كما ووجود فتاوى صائبة وأخرى غير صائبة، أمراً طبيعياً، بل هو مصداق من مصاديق انفتاح باب الاجتهاد.
إن تقدير جهود الفقهاء السابقين في حفظ الموروث الفقهي لا يعني تصويب رؤاهم فيما ذهبوا إليه، وإلا كان من المفترض الحكم بعقم العملية الاجتهادية في غير مستحدثات المسائل، واعتبار هذه الممارسة غير منتجة ولا مثمرة.
من هنا، تطرح على بساط البحث موضوعة الشهرة، إنّ هذه الشهرة الفتوائية بإمكانها أن تكون قرينةً وشاهداً على فهم النصوص، إلاّ أنّها لا تمثل ـ في أيّ حال من الأحوال ـ دليلاً أو برهاناً، ولذا لو قام على خلافها دليلٌ فلابدّ من رفع اليد عنها، والعمل على ما يقتضيه ذلك الدليل.
إن «شهرة القدماء» التي كان يؤكّد عليها فقهاء كبار من أمثال آية الله البروجردي (قدس سره) إنما تلعب دورها في تصويب عمليات تناقل الأحاديث عبر الأجيال، بمعنى أنّه كلّما لم نعثر على حديث في المصادر الروائية فإن شهرة القدماء تساعدنا على الوصول إلى حكم الحديث، إذا كانت ـ أي الشهرة ـ جاريةً في الأصول الحديثيّة المتلقاة عن المعصوم (عليهم السلام)، وهذا ما لا يلغي شرعية الممارسة الاجتهادية في فهم الحديث، أو الخروج باستنتاجات منه طبقاً للموازين الاجتهادية.
4 ـ مبدأ الجمع بين الفقه الجواهري والتجديدي
يشير مصطلحا: الفقه الجواهري والفقه الحيوي التجديدي الواردان في كلمات الإمام الخميني (قدس سره) إلى مبدأين أساسيّين في الاجتهاد هما:
المبدأ الأوّل: لا يجدر بالفقه والاجتهاد الخروج عن الحدود المتداولة لهما في الحوزات العلمية الدينية، ألا وهي الاعتماد على القرآن والسنّة، فلا ينبغي الخروج باستنتاجات مخارجة للفقه، ثم فرضها على العملية الاجتهادية وتحميلها عليها، إنما المفروض جعل المعايير المسلّمة في فهم الكتاب والسنّة أساساً تقوم عليه الممارسات الاجتهادية، دون العدول عنها قيد أنملة، نعم، هذا هو الفقه الجواهري.
المبدأ الثاني: من جانب آخر، يفترض أن لا يسقط الفقيه في ورطة النزعات الأخبارية والجمودية في فهمه واجتهاده الديني، ذلك أنّ الفقه إنّما جاء للإنسان وحياته في تمام العصور، وعلى مستوى الأجيال جميعها.
يجب أن يمتزج الفقه بالحياة بل أن يتقدّمها، إن نتائج الفقه القروسطي لم تعد نافعةً اليوم، بل يتحدّث عنها بوصفها مخالفةً لروح الحضارة والتقانة والتقدّم، وهذا ما لا يدرّ نتيجةً نافعة للفقه أبداً، إن من الضروري إبقاء باب الاجتهاد مفتوحاً على الدوام، وأن يعيش الفقيه زمانه ومكانه ولحظته، وذلك لكي يتمكّن من ضمان الفقه حياً وحاضراً فى الحياة وتلاطمها، وهذا هو معنى الفقه الحيوي المتجدّد.
إنّ اجتهادنا الفقهي يقوم على هذه المبادئ ـ وغيرها ـ ويركّز على الموضوعات التي غدت في هذا العصر محلاً لتساؤلات جادّة، أو أصبحت ظواهر جديدة في الزمن الراهن.
إننا نرى ضرورة رصد الموضوعات الفقهية الحديثة بآليات اجتهادية ومنهج علمي، وقد ارتأينا هنا أن يكون موضوعنا واحداً من قضايا العصر الجادّة المثارة في الاقتصاد الحديث، عنيت: الربا الإنتاجي الاستثماري، فالنظام البنكي في الاقتصاد المعاصر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بأقسام مختلفة من الاقتصاد، يربط ـ هو أيضاً ـ بينها بوصفه حلقة وصل محكمة، كما أنّ مسألة الربح في النظام البنكي تعدّ هي الأخرى أمراً مصيريّاً وأساسياً.
الربا الاستثماري اصطلاح جديد، يستعمل للدلالة على نوع من الأرباح في النظام البنكي أو القروض المشابهة له، وسوف نعالجه هنا بالبحث والمناقشة، وحيث كانت العصمة للأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ولا يصان غيرهم عن الخطأ والاشتباه كان هذا القلم فاقداً للمأمن من السقوط في الهفوة أو الوقوع في الخطأ، ولهذا كان النقد والانتقاد العلميان مساهمين في تقوية هذه الدراسة، وجرّ النفع والمصلحة لها.
1ـ عرض المسألة
الربا واحدٌ من محرّمات الديانة الإسلامية، دلّت على حرمته الآيات الكريمة والروايات الشريفة، بل كانت حرمته ـ عند الفقهاء ـ من الضرورات الدينية، كما صرّح بذلك صاحب الجواهر(9).
وقد كانت الحرمة ثابتةً للربا حتى في الأديان السابقة مثل اليهودية والمسيحية(10)، رغم وجود بعض الامتيازات التي تميّز موقف الديانتين في هذا الموضوع.
ويعني الربا في اللغة ـ كما يذكر صاحب المقاييس ـ الزيادة(11)، كما جاء في لسان العرب: «ربي أي زاد ونما»(12).
ولا شك في أنه ليست كل زيادة بالمعنى اللغوي ربا، بل لابدّ من شروط خاصّة تقتضي معها الزيادةُ الحرمةَ، فعلى سبيل المثال: إن كثرة الكلام، وإعطاء المال والتصدّق به بكثرة، وتحصيل العلم بشكل مضاعف... ليست من الأمور المحرّمة أبداً، بل إن القرآن والروايات دلّت نصوصهما على مطلوبية بعض الزيادات والرضا بها.
قال تعالى: ( وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (سورة الروم: 39)، وتعني هذه الآية أنّه لو قصد الباذل المعطي زيادة أمواله وكثرتها، أو كما يقال في المثل (الفارسي): «فليذهب الكأس إلى حيث يمكن أن يعود القدح» فإنّ هذا القصد لا يوجب زيادةً عند الله تعالى، أمّا لو كان قصده من العطاء والهبة التقرّب إليه سبحانه فإن عمله هذا سوف يتضاعف عنده.
إذن، فالزيادة ليست حراماً مطلقاً، بل لقد جاء استخدام كلمة الربا في هذه الآية وبصراحة، دون أن يراد منها ما هو محرّم.
وهكذا الحال في الروايات، حيث جاءت كلمة الربا بمعنى مطلق الزيادة، فعن إبراهيم بن عمر اليماني عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «الرباء رباءان: ربا يؤكل، وربا لا يؤكل، فأمّا الذي يؤكل فهديتك إلى الرجل تطلب منه أفضل منها، فذلك الربا الذي يؤكل، وهو قول الله عز وجلّ: ( وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ...)، وأمّا الذي لا يؤكل فهو الذي نهى الله عز وجلّ عنه، وأوعد عليه النار»(13).
وهكذا يؤكّد الفقهاء ـ بدورهم ـ أيضاً على هذه المسألة، فقد ذكر صاحب الجواهر أن «ليس المراد من الربا المحرّم مطلق الزيادة، كما هو معناه لغةً»(14).
2 ـ أنواع الربا
قسّم الربا في المصنّفات الفقهية إلى قسمين:
1ـ الربا المعاملي.
2ـ الربا القرضي.
أمّا الربا المعاملي فيعني أن تبيع جنساً بمثله مشترطاً الزيادة، وذلك مثل أن تبيع طنّاً من القمح مقابل طن ومائة كيلوغرام منه، وشرط حرمة هذا النوع من الربا، إضافةً إلى وحدة الجنس، أن يكون المبيعان من المكيل أو الموزون، أي تلك السلع أو البضائع التي يتعامل في السوق عليها عبر الكيل أو الوزن، فهذا النوع إذا اشترطت الزيادة فيه كانت رباً محرماً.
وبناءً عليه، فإذا كان هناك سلعة أو بضاعة تباع بالعدّ، مثل البيض في بعض المناطق، أو بالمشاهدة، مثل الحيوانات، فلن تجري عليها أحكام الربا.
ولم يشرط الفقهاء في حرمة هذا النوع من الربا أن يكون نقداً أو نسيئة، بل اعتبروه حراماً مطلقاً.
أما الربا القرضي، فيعني اشتراط الزيادة في قرض شي أو مبلغ من مال، ومثاله أن يقرض شخص آخر مقداراً من القمح أو النقد بشرط أن يضيف المقترض عليها بعد سنة وحين أداء الدين مقداراً زائداً، وهذا النوع حرام مطلقاً، ولم يعترف الفقهاء فيه بأيّ تفصيل.
3ـ أدلّة حرمة الربا
استند الفقهاء ـ لإثبات حرمة الربا ـ إلى الآيات القرآنية والروايات الكثيرة.
ففي القرآن الكريم، ثلاث آيات دالّة على حرمة الربا هي:
الدليل القرآني
1ـ قال الله تعالى: ( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا {*} وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) (سورة النساء: 160ـ161).
2ـ وقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (سورة آل عمران: 130).
3ـ وقال سبحانه: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {*} يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ {*} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {*} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {*} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) (سورة البقرة: 275ـ279).
الدليل الروائي
ثمّة روايات كثيرة دالّة على حرمة الربا، نشير هنا إلى بعضها:
1ـ جاء في وسائل الشيعة: «بلغ أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أنّه كان يأكل الربا ويسمّيه اللباء، فقال: لئن أمكنني الله منه لأضربنّ عنقه»(15).
2ـ ويوصي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً: «يا علي! الربا سبعون جزءاً، فأيسرها مثل أن ينكح الرجل أمّه في بيت الله الحرام»(16).
3ـ يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «الربا سبعون باباً، أهونها عند الله كالذي ينكح أمّه»(17).
4ـ وعن الصادق (عليه السلام): «درهم واحد من ربا أعظم من عشرين زنية كلّها بذات محرم»(18).
5ـ وعن الصادق (عليه السلام) أيضاً: «درهم ربا أشدّ عند الله من ثلاثين زنية كلّها بذات محرم، مثل عمّة وخالة»(19).
6ـ وعنه أيضاً: «درهم ربا عند الله أشدّ من سبعين زنية كلّها بذات محرم»(20).
7ـ وعنه أيضاً: «درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية كلّها بذات محرم في بيت الله الحرام»(21).
8ـ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «شرّ المكاسب، كسب الربا»(22).
9ـ وعن الباقر (عليه السلام): «أخبث المكاسب كسب الربا»(23).
10ـ وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ومن أكل الربا ملأ الله بطنه من نار جهنّم بقدر ما أكل، وإن اكتسب {منه} مالاً لم يقبل الله منه شيئاً من عمله، ولم يزل في لعنة الله والملائكة ما كان عنه قيراط»(24).
11ـ وعن الصادق (عليه السلام): «إذا أراد الله بقوم هلاكاً ظهر فيهم الربا»(25).
لقد حكم الفقهاء ـ اعتماداً على هذه الآيات والروايات ـ بحرمة الربا بكلا نوعيه: المعاملي والقرضي، حكماً مطلقاً لا تفصيل فيه، نعم، فلم يذكروا أيّ تفصيل بين الصور والحالات المفروضة لكلا نوعي الربا.
4 ـ نظريّتنا الخاصّة
رغم أنّنا نوافق ـ مثل سائر الفقهاء ـ على مبدأ حرمة الربا، اعتماداً على الآيات والروايات، بل نراه من ضروريات الفقه الإسلامي، بل ضروريات الإسلام، إلا أننا نعتقد بضرورة القول بتفصيل في الحرمة داخل كلا قسميه، عنيت: الربا المعاملي والقرضي، ومعنى ذلك ـ بعبارة أخرى ـ أننا نرى حرمة قسم واحد من النوع الأوّل للربا، وهو الربا المعاملي، وقسم واحد فقط من النوع الثاني للربا، وهو الربا القرضي، دون أن نرى دليلاً يثبت حرمة القسم الآخر من كلا النوعين.
ونحاول هنا عرض نظريّتنا الخاصة في هذا المجال.
أ ـ الربا المعاملي: نقد نظرية الحرمة مع امتياز الجودة
يصدق الربا المعاملي ـ كما أسلفناه ـ عندما يتمّ تبادل سلعة من المكيل أو الموزون بمثلها مع شرط الزيادة، كأن يباع طنّ من الأرز مقابل طنين من الجنس نفسه، وما شابه ذلك، لكن لو وقعت المعاملة على طنّ من الأرز الممتاز ذي الدرجة الأولى مقابل طنّين من الأرز ذي الدرجة الثالثة مما يتساوى في القيمة والمالية... فإن الحكم بحرمة مثل هذه المعاملة ـ حتى مع وجود زيادةٍ فيها ـ محلّ تأملّ وإشكال.
صحيح أن فتاوى الفقهاء في حالات من هذا النوع تسمح لأطراف المعاملة ـ كي يفرّوا من الحرمة ـ أن يبيع صاحب الطن أرزه بمبلغٍ ما، ثم يتم شراء الطنين الآخرين مقابل المبلغ المذكور، إلا أن هذا النوع من الفرار ليس سوى حيلة، وإذا فرضنا أنّ حرمةً ما كانت ثابتة على هذه المعاملة فإنّ هذه الحيلة لن تسقطها؛ وذلك لأن الاستفادة من الحيل ليست إلا لأجل إبطال مفعول القوانين وتفريغها من محتواها.
من هنا، نشكّك في الحكم بعموم حرمة الربا المعاملي لهذا النوع من المعاملات، ولتمام الصور المفترضة(26).
ب ـ الربا القرضي: نقد نظرية حرمة الربا الاستثماري
يقسّم الربا القرضي اليوم إلى قسمين مفترضين هما: الربا القرضي الاستهلاكي، والربا القرضي الإنتاجي الاستثماري.
ب ـ ا ـ الربا الاستهلاكي: ويعني أنّ المقترض إنما يُقدم على الاقتراض بدافع الحاجة والأزمة المالية، بل قد يضطرّه العوز إلى تأخير تسديد ديونه مرات عدّة عن موعدها المحدّد، مما يؤدي إلى تضاعف مقدار الدين عليه عمّا كان اقترضه.
والمستفاد من التفاسير والكتب الحديثية والتاريخية أن السائد زمان نزول الآيات القرآنية كان الربا الاستهلاكي، سواء شرطت الزيادة في بداية القرض، وهو ما يعبّر عنه الفقه الإسلامي: القرض بالشرط، أو كانت مقابلةً للتأخير في التسديد عن زمان دفع الدين أو تقسيطه، وبناءً عليه، يطالب المقرِض المقترض بمبلغٍ إضافي عندما يحلّ موعد الدين دون أن يتمكّن الأخير من دفع المبلغ المستحقّ عليه.
يقول القرآن الكريم في هذا المجال: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ...)(سورة البقرة: 280)، وهذا القانون القرآني مطابق تماماً للمعطيات العقلانية وما يفهمه العقلاء، من أنّه لابد من الإمهال في القرض حتى الحدود المتعارفة، فإذا لم يعمل المقرض عندها بهذا القانون الديني، بل طالب بالربا والزيادة فإنّه يكون مشمولاً للآيات والروايات المذكورة سلفاً، وهذا هو بالضبط ما نسمّيه: الربا الاستهلاكي.
إلا أنّ العصر الحديث جعلنا نتصوّر فرضيةً أخرى من المعاملات، ندر في الماضي وجود مثيل لها، بل تعدّ من مختصّات الحياة المتطوّرة المعاصرة، وهذه الفرضية التي غدت اليوم واقعاً، تتمثل فى حاجة الرجل الغنيّ المتموّل إلى رأسمال إضافي لاستثماره اقتصادياً، كأن يشيد به المجمّعات السكنية، أو يبني به المصانع والمعامل، أو يؤسّس مدجناً للحيوانات...، فهو يملك ـ حسب الفرض ـ مبلغاً كبيراً من المال، ويرى نفسه قادراً على إنجاز مثل هذه المشاريع الاقتصادية الضخمة، إلا أنّه يقترض مبلغاً من المال لإكمال رأسماله، غايته يشترط في قرضه هذا الربا والزيادة.
ومثال ذلك، أن يحتاج متموّل إلى رأسمال تجاري يقدّر بمائتي مليون تومان، فيما لا يملك هو منه سوى مائةً وخمسين مليوناً، فيضطرّه ذلك إلى اقتراض خمسين مليوناً لمدّة عام، مقابل أن يهب مبلغاً للبنك أو المقرِض.
هذا النوع من الربا هو ما نسمّيه: الربا الإنتاجي الاستثماري، أي أنّ المال في هذا الربا يصرف في إطار دفع عجلة الاقتصاد وتنمية الإنتاج.
أدلّة حليّة الربا الاستثماري
والسؤال الأساسي هنا هو: هل يمكن القول بأنّ أدلّة حرمة الربا تشمل مثل هذا النوع من المعاملات أم لا؟
يذهب مشهور الفقهاء إلى تحريم هذا اللون من المعاملات; اعتماداً على إطلاقات وعمومات الآيات والروايات، إلا أنّنا ندّعي أنّ هذا القسم ليس بحرام، ولا تشمله أدلّة المنع عن الربا، ولنا على ذلك شواهد وأدلّة هي:
الدليل الأوّل: إن الآيات القرآنية الذامّة للربا، وقد أسلفنا ذكرها سابقاً، وإن دلّت على مبدأ الحرمة، إلا أنّها مجملة من حيث بيان المصاديق والموارد، ومن ثم فليس لها دلالة على حرمة تمام أنواع القرض، استهلاكياً كان أم إنتاجيّاً وذلك:
أولاً: إنّها مجملة، ذلك أنّ الربا يعني مطلق أنواع الزيادة، الأمر المتيقّن من عدم حرمته، كما أشرنا إلى ذلك فى بداية هذه المقالة، وهذا معناه أنّ بعض أقسام الزيادة حرام أمّا بعضها الآخر فهو حلال، وحيث لم يبيّن في الآيات ما هو المحرّم أخذنا بالقدر المتيقّن منه، ألا وهو الربا الاستهلاكي، وهذا ما توضحه مطالعة آيات سورة آل عمران، والنساء; ذلك أنّه ليست فيها أيّة إشارة لوجود معاملة أو مبادلة في البين.
ثانياً: يمكن القول: إن آية: (... وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...) تدلّ على حرمة الربا الاستهلاكي، لا على نحو القدر المتيقّن، كما أسلفناه آنفاً، بل على نحو الظهور القرآني، ولكي يتّضح الأمر نلاحظ أنّ جملة: (... وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...) جملة استئنافية، وليست حالاً للجملة السابقة عليها، وإلا كان اللازم ذكرها مع كلمة «قد»، ذلك أنّه كلّما كانت الجملة الفعلية الماضوية حالاً، لزم ـ طبقاً للقواعد العربية ـ إضافة حرف «قد» إلى مطلعها، وحيث لم يكن الأمر كذلك، كانت الجملة استئنافية(27).
والتغير الذي سيحصل ما بين كون الجملة المشار إليها حالاً أو استئنافاً هو أنّها لو كانت حالاً سيكون معنى الآية: إن خداع الشيطان لهم أن قالوا: البيع مثل الربا، والحال أنّ الله قد أحلّ البيع فيما حرّم الربا، ومعنى ذلك أن هلاكهم وضلالهم كان في حال تشريع هذا الحكم، والحال أنّ هلاكهم كان قبل هذا التشريع وبعده معاً.
أمّا لو كانت الجملة استئنافيةً فستكون جملة: أحلّ الله البيع، منقطعة الصلة عمّا سبقها.
جاء في تفسير المنار أنّ الواو هنا يمكن أن تكون حاليةً فتكون الجملة اللاحقة لها جواباً عن إشكال آكلي الربا، الذين يقولون: إنّ بيع النسيئة الذي تكون القيمة فيه أكبر منها في المعاملة النقدية مثل الربا(28).
وعلى أيّة حال، فسواء كانت الجملة مستأنفةً أو حالية، فهي تجيب عن ما أورده آكلو الربا، وهذا الجواب يمكن أن ينظر إليه بمنظارين:
أحدهما: إنّ الله تعالى يريد أن يقدّم لهم جواباً تعبّدياً، وأنّه ليس بصدد وضع حدود فاصلة تميّز ما بين البيع والربا، الأمر الذي يخالف العادة القرآنية في بيان الأحكام، ذلك أنّ النص القرآني يسعى جاهداً على الدوام لإقناع مخاطبه إلى جانب إبلاغه بالحكم الشرعي، وكمثال على ذلك، عندما يتحدّث الله تعالى عن وجوب الصيام يرفق حديثه ببيان فلسفته فيقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(سورة البقرة: 183)، وهكذا الحال عندما تحدّث عن وجوب الحج، أشار إلى منافعه وعوائده الخيّرة على الإنسان، فقال: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً...)(سورة آل عمران: 97)، مضيفاً في آية أخرى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ...) (سورة الحج: 28)، وعلى المنوال نفسه،حكم القرآن بوجوب إقامة الصلاة، حيث عدّ المنع عن المنكرات والفحشاء فلسفةً لها، فقال: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ...) (سورة العنكبوت: 45).
وبذلك يتبيّن أنّ الله تعالى إنّما كان يدعو الناس إلى مرتكزاتهم عندما ميّز بين البيع والربا، وهذا معناه أن الناس يدركون بأنفسهم أنّ هناك اختلافاً بين بيع بضاعةٍ نسيئةً مع زيادةٍ في القيمة وبين إقراضهم شخصاً مشترطين عليه ـ بدايةً ـ الزيادة، أو عجز المقترض عن تسديد المستحَقّ في الموعد فيأخذون منه مبلغاً مقابل منحه فرصةً أخرى، وهكذا...، والسبب أنّ الصورة الثانية قبيحة ومنكرة، أمّا الصورة الأولى فليس حالها كذلك.
ولهذا أمكن القول: إن الأوّل بيع ومعاملة تقتضيها ضرورات الحياة، حيث لا يمكن للفرد وحده تأمين احتياجاته تمامها، وفقط بعض حاجات المجتمع يجري تأمينه عبر مقايضة البضائع بعضها ببعضها الآخر، كما هو الحال في المعاملات الأولية والبدائية، أو مبادلة عين بنقد، كما هو الحال في المعاملات بصورتها المتطوّرة، تماماً كما أشار إليه الإمام الخميني لدى جمعه بين أخبار خيار الحيوان، فكل إنسان يأخذ ما يريد(29)، إن هذه المعاملة ضرورية وهذه المبادلة لازمة لتنمية الحضارة البشرية.
ثانيهما: إنه ربا، ينبعث من الاستغلال السيء للفقر والعجز الذي يواجهه ضعفاء الناس، فيشرط مبلغاً إضافياً مقابل دفع القرض، وهو ما لا % التاريخ : 2008/06/21 تصفّح: 13390