موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: شخصية الإمام منعطف في التاريخ
سماحة آية الله العظمى الشيخ يوسف الصانعي (دام ظله الشريف)شخصية الإمام منعطف في التاريخ
يعدّ آية الله العظمى الشيخ يوسف الصانعي أحد مراجع التقليد المعروفين في إيران والعالم العربي والإسلامي، الذي عُرف بآرائه الفقهية الجديدة، واهتماماته بحقوق المرأة والمجتمع، ودور المقتضيات الاجتماعية وظروف المجتمع في صياغة الأحكام الدينية.
كما أنّه يعتبر أحد الأفراد الذين كانوا يشكّلون جزءاً من القوى الخاصة التي كان الإمام الخميني (قدس سره) يعتمد عليها في نشاطاته الثورية في أول الثورة المباركة وبعدها، ولذا فهو يمتلك خزيناً هائلاً من الذكريات العديدة حول ذلك المقطع التاريخي من عمر الثورة المديد، وخواطر مكثّفة ربّما لم تقال وتنشر من قبل، تتناول جوانب من حياة وسيرة الإمام الراحل (قدس سره)، وهذا مادعانا إلى زيارته في بيته، فكان هذا حوارنا مع سماحته:
□ منذ متى كانت معرفتكم بالإمام الراحل (قدس سره) ؟ وما هي حصيلة هذا المعرفة على جميع المستويات؟
◙ كانت معرفتي بالإمام منذ اليوم الأول الذي وطأت قدماي أرض قم، أي في عام 1330 هـ ش (1951 م) يعنى بحدود 57 سنة مضت، حينما جئت إلى هذه المدينة المقدّسة لأجل الدراسة وتحصيل العلوم الدينية في الحوزة العلمية المباركة، ولم تمض أشهر قلائل، ما يقارب 5 ـ 6 أشر حتى علمت من زملائي ورفاقي في الدراسة أن ثمة أستاذاً يدعى سيد روح الله، له حلقة درس في إحدى حجرات المدرسة الفيضية المباركة الواقعة بجانب الحرم المطهّر، وأنّه يتمتع بميزات خاصة تختلف عن باقي أساتذة الحوزة ومدرّسيها، لكنّني وبسبب كوني شاباً حديث عهد بحوزة قم، حيث كنت في سنّ الرابعة عشر من العمر، فلم يتسنّ لي الوقوف على أمره، أو أن آخذ الأمر بجدية أكبر.
وبعد مضيّ سنتين طُبعت للإمام رسالته العملية (رسالة الأحكام الشرعية) ، وعثرت على نسخٍ منها في مدرسة سيد محمد صادق، فانتابني شعور خاص بضرورة حضور درسه والإحاطة بأفكاره ومبانيه. هذه كانت البدايات الأولى لمعرفتي باسم وشخصية الإمام على المستوى العلمي والحوزوي، وفعلاً حضرت درسه الشريف، حيث كان (قدس سره) يدرّس مادة الفلسفة والأخلاق، وكانت أفكاره عظيمة، وأطروحاته غزيرة، فوجدت نفسي ـ لصغر سنّي ـ عاجزاً عن فهم وإدراك هذه المطالب المتعلّقة بالفلسفة والحكمة والحياة، فانقطعت عن الحضور لأكمل تدرّجي في المراحل الدراسية، وازداد استيعاباً لما ينثره هذا الأستاذ الناشط من مصطلحات ولغة رفيعة.
ظروف سيّئة وصعبة
لقد كانت الأجواء آنذاك متوتّرة، والسلطات الحاكمة بكلّ إمكانياتها الدعائية والإعلامية الضخمة، وتعدّد أدواتها وأفرادها الأمنية لم تكن تسمح لأحدٍ من أساتذة وطلاّب هذه الحوزة أن يرتفع صوته ويبلغ مداه، ولم تكن على استعداد أن تدع أحداً يبرز كفقيه وعالم ومحقّق، بل لم تكن ترغب أيّ ظهور لأيّ رجل دين في الساحة الإيرانية فضلاً عن الساحة العربية والإسلامية، كان ينتاب هذه السلطات نوع من الرعب الفزع من هكذا نشاط، لذا كانت تسعى جاهدةً إلى إخماده في مهده بكل الوسائل المتاحة، واستخدام سياسة العصا في ذلك.
والإمام (قدس سره) كان يدرّس الفلسفة والأخلاق آنذاك، لكنّه كان يختلف عن باقي الأساتذة ، حيث كان يمتلك مذاقاً خاصاً، وحسّاً متميزاً، وأسلوباً جذّاباً في طرحه للأفكار، لم يكن يروق لكثيرين سماعه أو نقله أو الحكاية عنه، إذ كان يطرح أفكاراً جديرة بالمتابعة والاهتمام، ويتّبع منهجاً يجده البعض أنّ ذلك قد يؤدّي إلى المساس بالوضع السياسي العام، وتحريك الجماهير نحو الاعتراض على الشخصيات السياسية والاجتماعية البارزة آنذاك، وتعريتها على حقيقتها، ولذا لم تكن حلقة درسه تتلقّى رواجاً بالقدر الذي تستحقّه، واهتماماً بالدرجة التي تليق بها.
بيد أنّ الكثيرين من الطلبة والروحانيين ـ كما كنت اعتقد أنا أيضاً ـ كانوا يعتقدون أنّ فلسفة الإمام الخميني (قدس سره) كان تشكّل مهنّداً صارماً في وجه القوى المتسلّطة والمتحجّرة السائدة في ذلك الوقت، إذ وجدناها تنطق بالحقيقة، وتكشف عنها، كما كانت تمثّل إحدى العوامل التي ساهمت بالوقوف بوجه الهجمات العقائدية وإثارة الشبهات التي كانت السلطات وأذنابها من الكسروية تعمد إلى إثارتها بين الناس البسطاء.
نعم، كانت فلسفة الإمام ومنهجه في الطرح والتدريس يمثّلان حدّاً قاطعاً لموجات التشويش العقائدي، كما كانت تشكّل أداةً معطاءة لكشف الحقائق والأسرار، وزيف الدعوات التي لم تكن الجماهير المسلمة في بلادنا على اطّلاع بها، ولمّا كانت فلسفته (قدس سرّه) قائمة على أساس علمي وموضوعي رصين، فلم تستطع أيّة قوة من مجابهتها أو ردّها بنفس اللغة العلمية. والطريف أنّ من كان يثير هذه الشبهات وينشرها ـ فضلاً عن أدوات الدولة الحاكمة آنذاك وجهازها المتصدّي ـ كان من الملالي الذين يخدمون الحكومة البائدة من حيث يشعرون ولا يشعرون، ولم يكن يمتلكون حظّاً من العلم والفقه سوى بعض الكلمات التي كانوا يحفظونها ويردّدونها على الناس من على المنابر ليشعروا الآخرين بأنّهم على مستوىً مقبول من العلم والمعرفة ! ولذلك كان الإمام (قدس سره) يركّز كثيراً في طيّ دروسه ومباحثه على ضرورة كشف أسرار هذه الطبقة المتطفّلة، ويؤكّد على خطرها البالغ على العقيدة والدين والنظرة إلى الأشياء، بالتدريس تارةً، وبالتأليف أخرى، حتّى ظهر (كشف الأسرار) الذي أحدث ضجّةً في الأوساط آنذاك، وما أعقبه من ردود أفعال تجاه الإمام وفكره ونهضته.
وليس هذا فحسب، فقد استمر الإمام بنشر الحقائق في كلّ وسيلة مكتوبة أو مسموعة، بل راح يدوّن ذلك في طيّ الحواشي التي كان يسجّلها على التفاسير والرسائل، كما في رسالته التي عثر عليها في المكتبة الوزيرية في مدينة يزد، والتي كانت تتضمّن تفسير هذه الآية (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا...) (سورة سبأ : 46)، فورد فيها كشفٌ عن عزمه وتصميمه على خوض هذه المعركة الشرسة، والإصرار على السير في درب ذات الشوكة.
المرجعية الدينية والحماية الجماهيرية
لاشكّ أنّ هنالك عوامل عديدة ـ ربّما لا يمكننا البوح ببعضها ـ تكاتفت وتضامنت مع بعضها البعض، فاجتمعت ضدّ مسيرة هذا الرجل العملاق، وأدّت إلى إغمار شخصيته الحقيقية في ذلك الوقت، وعملت على عدم طرحه كفقيه وعالم بارز في الساحة العملية رغم أنّ له رسالة عملية (اجتهادية) مطبوعة، واعتقد أنا شخصياً أنّ من أبرز هذه العوامل : التحجّر الفكري والسطحية العلمية التي كانت سائدة آنذاك برعاية السلطات الحاكمة التي كانت إيران وشعبها تئنّ تحت وطأتها، إذ كانت الحكومة المستبدّة لا يتعدّى همّها عن مصالحها الشخصية، والعمل على تحريك الشارع باتجاهها، وليس من مصالحها أن يرتفع اسم الإمام عالياً، أو أن يُطرح بعنوان فقيه وعالم ومرجع تقليد، بل أنّ من دواعي سرورها أن يكون هذا الرجل مغموراً وغير معروف في الأوساط، لأنّها أدركت أنّها لو رضيت بطرحة كفقيه ومرجع تقليد للناس فسوف يكون التعامل معه صعباً وعسيراً، والسلطة الشاهنشاهية بكلّ جبروتها وجرأتها لا تستطيع أن تمسّ المرجعية بشيء، أو أن تسيء الأدب نحوها؛ لعلمها بمكانة ومنزلة المرجعية الدينية عند الشعب الإيراني، فضلاً عن ثقلها الجماهيري عند دول الجوار، خاصةً بعد أن ثبت في تجربة فتوى الميرزا الشيرازي في تحريم التنباك قوة وأثر المرجعية في الساحة، وأنّ عليهم أن يضعوها في حسابٍ خاص. فكلّ ذلك أدّى إلى قناعة السلطة البائدة وأذنابها من أجهزة الدعاية والأمن والمخابرات بعدم طرح الإمام (قدس سره) كمرجع تقليد بين الناس ولو على مستوىً محدود.
بيد أنّ ذلك لم يكن بيد أحد، فثمة قوة رباّنية أرادت أن يرتفع اسم هذا الرجل رغم أنف السلطات، وما أن أحسّت تلك السلطات بهذا المدّ الجارف لمكانة وعلمية الإمام حتّى قامت باعتقاله عام 1342 هـ ش (1963 م) وأودعته السجن للحيلولة دون استمرار هذا المدّ، ثم العمل على استئصال شأفته، فلم يكن أمام مريدي الإمام وأتباعه إلاّ العمل على حمايته وإنقاذه من قبضة السلطات الشديدة، فكُثِّـفت النشاطات باتّجاه تحريك الأوساط العلمية المعروفة، والشخصيات الفقهية الفاضلة، للعمل على حمايته من قسوة وجبروت السلطات، وذلك من خلال الاعتراف بمرجعية الإمام (قدس سره) بصورة رسمية وجماهيرية واسعة، وتعريفه بكونه أحد أساتذة ومجتهدي الحوزة البارزين.
وقد سعى بعض الأكابر من علماء الحوزة العلمية إلى إمضاء ذلك؛ لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ إعلان مرجعيته رسمياً من قبل الحوزة العلمية بقم ستوفّر له الحماية الكافية واللازمة، وتصونه من كلّ إجراءٍ قاسٍ قد تتّخذه الحكومة المتسلّطة ضدّه آنذاك.
ونحن لا نعلم إن كان ثمة حماية قانونية للمراجع الدينيّين، أو وجود مادة قانونية أو حقوقية تنصّ على حماية المجتهدين في لوائح القانون الشاهنشاهي، إذ ليس ثمة هكذا أمر، لكنّ الذي نعلمه أنّ هنالك حماية في العُرف القضائي، وعُرف أجهزة النظام آنذاك، يقضي بعدم التعرّض لهذه الطبقة المحترمة من الناس، وأنّها ـ رغم جبروتها وقدراتها ـ لا تستطيع أن تتجاوز هذا العُرف السائد.
وعلى أيّة حال فقد صبّت المساعي في هذا الإطار، وأُعلن رسمياً اجتهاد الإمام (قدس سره) بعد أن تمّ تأييد ذلك من قبل 10 ـ 12 شخصاً من علماء وفضلاء الحوزة العلمية المعروفين.
وأمّا على مستوى الطلبة والروحانييّن فكان العمل جارٍ على التعريف بشخصية الإمام (قدس سره) الفقهية والعلمية، ونشر آرائه وأفكاره بين المعارف والأصدقاء، وعلى مستوى طلبة الحوزة العلمية في قم وإصفهان ومشهد و...
ولقد كنّا مع الآخرين على طول مراحل المواجهة والنهضة المباركة، نسعى إلى الترويج لمرجعيّته(قدس سره)، ونشر أفكاره ومنزلته في الحوزة العلمية، من خلال تكثيف اللقاءات مع الأصدقاء والمعارف والزملاء؛ لأنّنا كنّا على قناعة تامّة بضرورة حماية هذا الرجل الجليل القدر، وأن ليس ثمة وسيلة مؤثّرة لحمايته إلاّ بالترويج لمرجعيته بين الطلبة، وكسب طمأنينة الناس نحوه، وأنظار الجماهير باتجاهه، إذ كانت السلطات تدعم الجهات المخالفة للإمام وحركته، والتي راحت تروّج العكس، وتعزف وتطبل على أنّه ليس مجتهداً بالمرة! في محاولةٍ منها للنيل منه، وتضييع الجهود التي بذلها (قدس سره) على طول تاريخه العلمي والحوزوي، إضافة إلى تغييب جانبه الفقهي والاجتهادي عن الأنظار، الذي كان يعدّ الدعامة الرئيسة التي يحتاج إليها الإمام (قدس سره) في مواصله كفاحه ومسيرته النهضوية.
حلقة درس الإمام ... الهدف الصعب
لقد كانوا يصفون درسه الأخلاقي بالحسن، وأنّ أصوله صحيحة لاغبار عليها، لكنّهم كانوا يلتزمون الصمت تجاه فقهه ومستواه الفقهي، بل لم يكن يجرأ أحد على البوح به والتعرّض له، إذ العيون منتشرة في كلّ مكان، والدعايات ضدّه متواصلة على قدم وساق، ولا مجال للمخالفة للأوامر الصادرة من الحكومة التي كانت تحكم بالحديد والنار، ولذا تحتّم علينا في خضّم تلك الأوضاع المزرية، والظروف الصعبة أن نكثّّف طاقاتنا من أجل التعريف بشخصية الإمام الفقهية والاجتهادية أكثر من سائر جوانب شخصيّته، والترويج لآرائه الاجتهادية بصورة واسعة؛ ليقف الناس على حقيقة خطّه ومنهجه، لا ما يروّجه أتباع الشاه البائد وخدمه.
وهذا ما دعانا إلى حضور درسه الشريف بصورة مستمرة ودائمة، والعزم على تقديم الغالي والنفيس لخدمته، رغم ما كان يشاع من أفكار ضدّه، وأنّ حضور درسه ما هو إلاّ إهدار للوقت في أمور فلسفية غير مفيدة ! وأنّ درسه لا يبحث سوى عن السياسة والسياسيّين، ولا صلة له بالحوزة ولا بالعلوم الدينية!!
لقد لعب المرحوم الشيخ إسماعيل إبراهيم نجاد ـ وكان يسكن طهران العاصمة ـ دوراً بالغاً في تشجيعنا وبعض الطلبة الآخرين على حضور درس الإمام، ولم يزل يصفه لنا بالدرس المفيد التي تتجلّى فيه مباني الحقيقة وصروحها، وإنّه لابدّ من طالب العلم أن لا يفوته ذلك، وظلّ الشيخ يضخّ فينا الأمل والاهتمام بشخصية الإمام وفكره الوقّاد أكثر فأكثر، ويشرح لنا بعضاً من أفكاره، حيث كان يتردّد كثيراً على بيت الإمام، ويحضر حلقة درسه بانتظام، فكان من ثمرة ذلك الجهد أن كسب طائفة من الطلبة، وضمّها إلى حلقة الإمام (قدس سره). لقد كان هذا الشيخ من الرجال الزهّاد القلائل، ويتمتّع بحسٍّ علمي وواقعي، ولم يتوان لحظة في خدمة الإمام وتطلّعاته الرسالية.
لا تزال الذكريات مطبوعة في خاطرنا عن هذا الرجل الزاهد، ولم أنس المرتين اللّتين ذهبت بهما إليه من أجل الاستخارة للقيام بأعمال مهمة، أولها في زمان السيد البروجردي (قدس سره)، حينما رغبت في المشاركة في الانضمام إلى البعثات التي كانت تنطلق إلى مدينة كرمنشاه الحدودية (تقع إلى غرب العاصمة طهران باتجاه العراق بنحو ثمانمائة كيلومتر) من أجل الوعظ والإرشاد الديني، وبعد أن وجدت نفسي مشتاقة إلى العمل مع هذه المجموعات الروحانية، عزمت على الذهاب معها، لكنّني ارتأيت قبل ذلك أن استخير الله سبحانه عند هذا الشيخ، فجاءت الاستخارة أن أدع السفر جانباً. وأمّا المرة الثانية فهي عندما عزمت على زيارة العتبات المقدسة، فاستخار لي وقال : إنّ ذهابك إلى العتبات وهي روضة من رياض الجنّة، ومجلس الدرس أيضاً هو روضة من رياضها، لكن الفارق بين الاثنين كبير، فالأول سفر ورفاق سفر، ولا شغل سوى الحديث علن السفر، وربّما اختلفت الأقوال بلا طائل، أمّا في محضر الدرس فكسب للعلم إضافة إلى الرفاق، والشغل ينصبّ في المباحثة وتداول العلم، وربّما يحصل اختلاف لكنّه مفيد.
وهكذا كانت البداية الأولى في حضور درس الإمام الراحل (قدس سره)، وهكذا نشأت العزيمة على الخوض في هذا البحر الزاخر بالعلم والأخلاق والحكمة العالية.
وما يجدر ذكره هنا سرد بعض الخواطر في هذا الإطار ، حيث كنّا وبعض الطلبة الزملاء نعمد إلى أن نفترش الأرض بعد انتهاء درس الإمام، فنأخذ ركناً من أركان المدرسة الفيضية المباركة، ونشرع بالمذاكرة بصوتٍ عالٍ، والنقاش بصورة مثيرة، لدرجة أنّ بعض طلبة آية الله الأراكي (قدس سره) الذين كانوا يجاوروننا يعترضون علينا، ويشكون منّا أصواتنا المرتفعة ويطلبون منّا بأدبٍ الهدوء أو الذهاب إلى مكان آخر !
إنّ حبّنا الشديد للدرس، ورغبتنا القوية في طلب العلم والمناقشة، أدّى بنا إلى الذهول عمّا كنّا نصنعه، على أنّ ذلك كان مقصوداً مدبّراً، من أجل إسماع الآخرين ـ بقدر الإمكان ـ باسم الإمام، والترويج لحلقة درسه الشريف رغم أنوف السلطات.
أخلاق سامية وحلم مدهش
لازلت أذكر أفراد تلك المجموعة التي كنّا نشكّلها كلّ يوم، وإثارة الضجة وسط باحة المدرسة الفيضية، منهم: المرحوم الشيخ إسماعيل إبراهيم نجاد، آية الله الزرندي، آية الله الفاضلي الذي يقيم صلاته في الحرم الطاهر في بعض الأحيان، الفاضل ذو الفقاري الذي مازال في خدمة آية الله بهجت أدام الله ظلّه... وآخرون.
ومازالت الخواطر تدور في خلدنا حول بعض الطلبة الذين كان لهم حضور متميّز في حلقة درس الإمام (قدس سره)، أو كانوا يتّصفون بنوع من الصفات التي لا يمكن أن تمحوها الأيام، أذكر منهم آية الله السعيدي الذي كان يتمتّع بذوق وسلوك خاصّ، وكان يتحلّى بشيء من الجرأة الممتعة ! إذ طالما كان يبادر بكلام يضع الإمام (قدس سره) في حرج، فمثلاً شدّد الإمام في أحد الأيام على الحضور ـ لجميع طلبته ـ بانتظام كي لا ينعكس هذا التخلّف على هدوء وسكينة الحاضرين، لكن حدث أنّ الإمام نفسه قد تأخّر عن موعده المعتاد 4 ـ 5 دقائق فقط، وما أن جلس ليشرع بدرسه حتّى ابتدره آية الله السعيدي قائلاً : أتأذنون لي أن أقول شيئاً ؟ فأطبق الجميع بالصمت، ولاذت عيون الطلاب باتجاهه تبحث عمّا سيجيبه الإمام، فردّ عليه الإمام : نعم، تفضّل، فابتدأ قائلاً : (لم تقولون ما لا تفعلون) !! لقد كان هذا الرجل صريحاً لدرجة كبيرة، وصراحته هي التي أدّت به إلى يبلغ درجة الشهادة!
وكذلك كان لهذا الرجل موقف آخر مع أستاذه السيد الإمام (قدس سره)، يوم اقترح على الإمام أن يأتي جميع طلبة حلقة درسه إلى بيته يوم ولادة الإمام الرضا (عليه السلام) لغرض تقديم التهنئة والاحترام على عادة الشيعة الإمامية، فسرّ الإمام وردّ عليه قائلاً : «بكل سرور، لكن لا أحد عندي من يقوم بأمور الضيافة» فأجابه: غي ممكن يا سيدي، الكلّ يريد أن يأتي بيتك ويزوركَ!
قال هذا وسط دهشة الجميع، ولمّا وجد الإمام (قدس سره) الجدّ والإصرار في كلامه استسلم ورضخ، ثم طافت عينيه نحونا حسبنا أنّه يبحث عمّن يؤيّده، لكنّنا فوجئنا جميعاً أن أشار إليَّ، حيث كنت أجلس في الصف الأول؛ لصغر سنّي وحجمي، فبادرني الإمام مبتسماً : «بني ! هل بإمكانك مساعدتي في هذا الأمر ؟» فأجبته : لي الفخر يا سيدي، لكن ائذن لي أن اصطحب بعضاً من رفاقي لمعونتي فأجابني والابتسامة المشرقة على شفتيه: «إفعل ما تراه مناسباً يا بني!».
كان هذا مبعث فخر لي في أن أحظى فرصةً لأخدم بها العلماء، إنّه شرف ما بعده شرف، وفي اليوم الثاني انطلقت إلى الفيضية لأرى رفاقي، وأجد من يقبل برفقتي، ففوجئت بطابور من الطلبة، وبعيون محدقة إليَّ، وأفواه فاغرة نحوي، يقولون : إن لم تكن مستعداً فنحن مستعدون ! فأجبتهم : ما كنت لا أدع هذا الفخر لغيري، يا جماعة!
كان يوماً حافلاً عندما قررّت أن أصحب معي إلى بيت الإمام أخي و الشيخ ذو الفقاري والشيخ محمد باقر شريعتي، واتّفقنا بعد مداولات طويلة أن نصحب معنا هدية نفيسة نقدّمها للإمام بهذه المناسبة السعيدة، ولكونها الزيارة الأولى لبيته الشريف، فحملنا معنا دورة كتاب (جامع المقاصد) التي كانت آنذاك من الكتب القليلة المفقودة في الأسواق، وكتبنا على غلاف المجلّد الأول منها : إلى سماحة الأستاذ...، ولقد سرّ الإمام بهذه الهدية الثمينة لكنّه فضّل أن تكون عندنا لمطالعتها، لكنّنا أصررنا على ذلك، وقلنا له : ثمة مكتبات عديدة يمكننا الاستفادة منها للحصول على هذه الدورة، أمّا أنّك لا تستطيع مثلنا أن تحصل عليها هنالك، فابتسم وتقبّلها منّا.
لقد كان الإمام الراحل (قدس سره) يتمتّع بذوق رفيع في كلّ شيء، ممّا يدلّل على اللطف الذي منحه الله إليه، والعظمة والسمو الذي وهبه إياه، وهو ما كان أخي يرويه عنه إبّان السنوات الطويلة التي كان يخدمه بها، كما كان يروي لنا أسراراً بعد رحيله (قدس سره)، وكيف كان يقدّم المساعدة لسماحته (قدس سره)، وأنّه اضطرّ إلى ابتلاع إيصالات الحقوق الشرعية خوفاً من أن تقع بيد رجال السافاك الذي كانوا يهجمون على بيت الإمام بين الفينة والأخرى من دون رادع ضميرٍ أو وجدان!وكان الإمام يبتسم لأخي قائلاً : هنيئاً لك هذا الطعام!!
إنّ تسليم الوجوهات والحقوق الشرعية إلى بيت الإمام كان يعدّ ضرباً من المستحيل آنذاك، حيث السافاك في كل مكان حول البيت، والعيون تراقب كلّ من يدخل ويخرج، ومن يخرج يلاحق ويعتقل ويتلقى العذاب الأليم!!
يروي أحد الخيّرين من اصفهان أنّه كان ينقل إلى الإمام الوجوهات الشرعية، لكنّه لم يكن ولا مرة ليجرؤ على الذهاب إلى بيته، فكان لقاؤه يتمّ مع السيد أحمد (ابن الإمام) في مكانٍ ما، فيسلّمه إياه، ثم يتفق معه في مكان آخر من أجل استلام الإيصالات ليسلمها إلى أصحاب تلك الوجوهات.
الاعتدال والعقلانية
□ من المسائل المطروحة مسألة الاعتدال والعقلانية على الصعيد السياسي، ماذا تحفظ ذاكرتكم حول عقلانية واعتدال الإمام ؟ وهل كان (قدس سره) يجريها أثناء تعاطيه السياسي أم لا ؟
◙ لا شك أنّ الفقيه الذي يمتلك استعداداً خاصّاً، وإحاطة كبيرة بالمسائل، يمكنه أن يجري بالعقلانية في كلّ فروع ومسائل الفقه، وكذلك إذا امتلك فكراً حرّاً يمكنه من إجرائها على الصعيد السياسي. وتاريخنا الإسلامي المعاصر يزخر بالرجال الفقهاء الذي تركوا بصماتهم عليه، فهذا الآخوند الخراساني والميرزا الشيرازي وعلماء عصره حيث أضحوا جزءاً صعباً أمام سياسة الضغط الذي كان الاستعمار يمارسه على اقتصاد إيران، ثم المرحوم آية الله السيد البروجردي الذي ركّز مساعيه باتجاه حفظ وصيانة الحوزة واستمراريتها، ولم يدع أحداً يضرّ بها.. وهكذا الأعلام الآخرون، فهؤلاء كانوا فقهاء ويمتكلون فكراً حرّاً، وإحاطة بالمسائل والوقائع، وكانوا يهتمون بالناس ومعائشهم، ويبدون اهتماماً بالغاً بمكانة الإسلام في المحافل العلمية، لذا كانوا يبدون اعتدالاً في تعاملهم، وعقلانيةً في تعاطيهم مع الحوادث العملية، ويتركون بينهم وبين الفكر المتحجّر مسافة كبيرة.
نعم، ظهر من الفقهاء من هو متضلّع بالفقه، لكنّه لم يكن يمتلك درايةً بالحوادث والظروف المحيطة، لذا تراه ضعيفاً على المستوى السياسي، وينحى المنحى غير الصحيح في هذا الاتجاه، مثل السيد محمد كاظم اليزدي صاحب العروة الذي كان يعدّ أحد أقطاب الفقه الإمامي، لكن ما جرى من موقفه المخالف من حركة المشروطة ما يشير إلى سطحية نظرته على هذا الصعيد وإن كان له حضور هائل في المجال الفقهي. اذن ثمة علاقة طردية بين العقلانية والفقاهة والإحاطة، فكلمّا كان الفقيه يتمتّع بإحاطة كاملة للأمور والمستجدّات وإيمان أكثر، كانت مبادراته ومواقفه السياسية تتّسم بالعقلانية والاعتدال، ومن يتمتّع بالعكس فهو لا يفيض إلاّ فكراً متخلّفاً ومتحجّراً إلى حدود متباينة، حيث لا عقلانية ولا اعتدال فيه.
إنّ التحجّر قد يتّسم به العالم كما هو في الجاهل على حدّ سواء، إن لم يكن أسوء منه، فإذا قلت لأحدهم : خروج المرأة من بيتها لا لضرورة يستلزم إذن الزوج، ولو خرجت من دون إذنه يحقّ له ضربها ضرباً مبرّحاً ! فما أسرع ما يقول لك : نعم، هذا هو حكم الله ! فهو لم يلحظ إلاّ جانباً واحداً من هذه المسألة، من دون أن يتعب نفسه في تقصّي الجوانب الأخرى، فهو يفكّر على أساس عقيدته وذهنيته المحدودة، ولا يمنح مجالاً لعقيدة الآخرين ولا لذهنيتهم للمشاركة، بل هو لا يعلم أنّ الأحكام تمتلك مرونة وسماحة أكثر ممّا تمتلك أيّ شيء آخر.
والطريف أنّنا قد واجهنا مثل هذه القضايا، وبرز من يعترض على بعض آرائنا التي طرحناها مؤخّراً، وراح يفتعل الضجّة من حوله من حيث يشعر ولا يشعر. نحن لم نرد إلاّ طرح ما ينفع حياتنا العملية، ويساهم في حفظ واستمرار النظام العام، ومن هذه القضايا قضية إقامة الرجم في هذه الأيام، وماتشكّله هذه القضية من انبعاث ظاهرة سلبية تؤثّر على النظام الاجتماعي والسياسي للمجتمع المسلم. كنّا ندعو إلى العقلانية والاعتدال في هذا المضمار، ونطلب الإصلاح في بعض القوانين الاجتماعية بصورة جدّية وأساسية، لكن للأسف رفض البعض هذا، وامتنع عن التصدّي له، وسوف تشهد الأيام القادمة صحّة الدعوى.
إنّ العقلانية مطلوبة على جميع الأصعدة، وفي المجال الفقهي آكد، لأنّه يشكّل عنصراً مهماً وأساسياً في حياة المسلمين اليومية، بل ليس لهم غنىً عنه في ممارساتهم العملية، كما أنّ العقلانية والاعتدال تصاحبان الفقاهة ولا يفترقان عنها.
المجدد الأردبيلي... والمجدّد الخميني
وفي ضوء ذلك فالمقدس الأردبيلي ـ باعتقادنا ـ يعدّ مجدّداً للمنهج الفقهي في زمانه، يعني أنّه تناول المنهج الذي كان عليه المتقدّمون؛ كالشيخ الطوسي ومن تبعه من المتأخّرين كالشهيدين وتلامذتهما بصورة جريئة أدهش المحافل العلمية، وأثار حفيظتهم، ولعلّه لهذا السبب لم يطرح كتابه (مجمع الفائدة والبرهان) ضمن الجوامع العلمية، إضافة إلى سعي المتحجّرين إلى عدم الترويج له، ومخالفته بكّل الوسائل. إنّ من مظاهر إبداع هذا الرجل أنّه كان يستنبط عشرة أحكام من تحقيق روايةٍ واحدة، في حين أنّ الآخرون عجزوا عن مقارعته، ولم يتمكّنوا سوى استنباط حكمٍ واحد.
إنّ من يتسنّى له الوقوف على فقه هذا الرجل (المقدس الأردبيلي) يجده مثالاً يحتذى به على صعيد الإبداع في الفقه، والعقلانية في التحقيق، والتحّرر في الاستنتاج والتفكير، بل يجده يعتمد قاعدة اليسر والسهولة، فضلاً على قاعدة «لا حرج» في أكثر استنباطاته الفقهية، وهما من القواعد ذات الأُصول المتينة والدلالة على العقلانية.
وكذلك كان الإمام (قدس سره) يتّصف بهذه الصفة، فلم يكن يتحرّك إلاّ في هذا الاتجاه، سواء على الصعيد الفقهي أو السياسي، بل كان لا يسجّل مواقفه إلاّ في هذا الإطار.
ولا بأس أن أروي أحد مواقفه على هذا الصعيد، فقد حدث مرّة أن سأله آية الله حيدري نهاوندي ـ أحد الروحانيين الموقّرين الذين استشهدوا في انفجار مقرّ اجتماع الحزب الجمهوري ـ عن مسألة في باب الربا، تتعلّق بما اصطلح عليه بباب الحيل من أبواب الفقه، وهي أنّ رجلاً لو أعطى آخر مبلغاً من المال قرضاً مع علبة كبريت، على أن يردّه إليه بزيادة، كيف يجوز ارتكاب هذا العمل الذي هو رباً ولاشك والذي يوقع الناس تحت طائل عسير؟! نعم، هذا «الربا» في هذا الموضع حلال، وهو أحد المشاكل العويصة التي يبتلى بها الناس، وسؤال هذا الشيخ إنّما يتركّز على علّة عدم تحريمه رغم حقيقته الواضحة! والإمام (قدس سره) لم يتزمّت بجوابه ويقول له: إنّه حكم الله كما أفادت به الدلائل، فدع واصمت، بل راح يسهب في طرح الأدلّة عليه، ثم عقّب على ذلك ـ ضمن عقلانيته المعهودة ـ قائلاً له : إنّك يا شيخ، لا ترى الصورة في ذهنك إلاّ في رجلٍ جشعٍ وآخر ضعيفٍ منهكٍ، يعطي الأول له المال ثم يأخذه منه بزيادة وربح يعسر الثاني دفعه له!! أليس هذا ما تتصوّره ؟ أليس من الممكن أن تكون الصورة بشكل آخر، وهو أنّ ثمة رجلان قادران تاجران، يعطي الأول للثاني مبلغاً ليصرفه في أمور التجارة، ويعود عليه بفوائد عظيمة، ولأنّ الأول قد ساهم في هذا النتاج والربح، وليس ثمة ضرر من أن يردّه مع زيادة، ورفعاً للإشكال الشرعي تمّ وضع علبة الكبريت في سياق المعاملة.
إنّ المشكلة لا تكمن في هذه الزيادة، ولا بعلبة الكبريت، بل هي تكمن في التصوّر لهذه المسألة، كما لا يبعد أن تكون الصورة بشكل ثالث، كأن يكون الأول فقيراً وراح يقرضه الثاني الغني، خوفاً منه أن يصرفه في موارد غير منتجة، فاقترح عليه الثاني قرضه إيّاه على أن يردّه إليه بعد مدّة بزيادة ونماء كمساعدةٍ له، ورفعاً للإشكال المتقدّم تمّ جعل علبة الكبريت ضمن سياق المعاملة... وهكذا.
كان هذا الجواب من الإمام له جانب عقلاني، راعى فيه مسألة الزمان والمكان في القضية استناداً إلى قاعدة السهولة و«لا حرج»، لكنّه (قدس سره) لمّا تمّ إبعاده إلى النجف الأشرف إبّان تصدّيه المواجهة، وسلسلة تنقلاته ومهاجرته إلى عدّة بلدان أجنبية، ومطالعته عن كثب أحوال الناس، وما قرأ من معلومات عن الاقتصاد العالمي، ولقائه مع نماذج عديدة من الناس، كلّ ذلك أدّى إلى أن تنشأ عنده فكرة خاصة عن هذا الموضوع، أدّت بمجموعها إلى أنّ كلّ حيلة في باب الربا محرّمة، لكونها تتضمّن جوراً يعود ضرره على المجتمع كلّه وليس على الفرد وحده، وبالتالي لا يحقّ لأحد الخوض في هذا الباب. وهو رأي يخالف ـ تقريباً ـ الإجماع المدّعى في هذا الباب، ودليله: أنّ الإسلام واضح في تعاليمه، وإنّما جاء لهداية الناس إلى الصواب، وأنّ جميع تعاليمه لتؤكّد على ذلك، وهدفها تكريس الطمأنينة والسلام في المجتمع المسلم، والخوض في هذا الاتجاه يخالف هذا الهدف، إذ الصور السلبية المتعلّقة في هذا الموضوع أكثر من الايجابية، ومشقّته أعظم من أيّ شيء آخر فيه، لذا وصل إلى قناعة بأنّ الخوض فيه يوجب ضرراً على المجتمع كلّه ولو كان أحياناً يعود بفائدة إلى آحاد من الناس.
إنّ هذا ليدلّ دلالة واضحة إلى مرونة الإسلام والفقه الإسلامي، والى عقلانية هذا الرجل الفقيه وإدراكه لحاجات المجتمع، ومواضع ضرره ومشقّته.
إنّ تنقلات الإمام (قدس سره)، ومهاجرته لأكثر من بلد إسلامي وغير إسلامي، ووقوفه عن كثب على أحوال الناس، ساعدته على تبنّي تصوّر خاص في توجّهاته الفقهية والسياسية، وحفّزته على تشخيص المشكلات الأساسية عن غيرها، وأوحت إليه سبل علاجها، وأدّت به الالتزام بمبدأ العقلانية والاعتدال في تعاطيه الفقهي والسياسي، وكلّ مواقفه تشهد بذلك، بل حتّى بعد عودته إلى البلاد، وتسلّمه زمام الأمور، وحصوله بجدارة على امتيازات القائد والإمام لهذا الشعب المجاهد، كان يعامل الناس على أنّهم أبناؤه، وأنّهم جميعاً أبناء هذه الثورة العظيمة، وكلّ واحد منهم مشارك فيها على حسب موقعه، وله الحقّ فيها، إلاّ من يرفض هذا الامتياز ويرغب عنه.
الإمام .. وحاجات الناس
وانطلاقاً من هذا الموضوع نرغب في التأكيد على أمر مهم وهو أنّ الإمام على طول مراحل جهاده وكفاحه ضد النظام الطاغوتي المتجبّر لم ينس يوماً أحوال الناس وحاجاتهم، ولم يدع الاهتمام بهم ورعايتهم ودعمهم بكلّ الوسائل الممكنة، ولذا على المسؤولين اليوم الاهتمام بهذه الانجازات التي حقّقها الإمام (قدس سره) باعتباره قائداًً ومسؤولاً، والدوام على الخوض بهذه السيرة العطرة التي أسّسها، ليجعلوا حاجات الناس نصب أعينهم، ويكرّسوا اهتماماتهم نحوهم، لكيلا يفكّر الناس يوماً أنّ حضور الانتخابات وصناديق الاقتراع وعدم حضورها سيّان! أو أن تصبّ قناعاتهم بعدم جدوى حضور صلوات الجمعة والجماعة، والمشاركة في الاجتماعات الجماهيرية. لقد كان الإمام يحثّ الجميع على الحفاظ على ثورتهم، وعدم التهاون بشعاراتهم، وأن لا يدعوا الآخرين يسلبونهم ثورتهم التي أعادت إليهم كرامتهم المهدورة في ظلّ النظام البائد، بل كان الإمام يبذل جهده في سبيل الاستفادة من طاقات هذا الشعب الكامنة، وأن لا يدع أحداً عاطلاً، مهدورة كرامته، متلذّذاً بما يصوّره له الأعداء من ملذّات الدنيا.
ولا أظنّ أحداً قد نسي بيان الإمام ذا النقاط الثمانية، الموجّه إلى القوة القضائية، فأظهر البعض الامتعاض منه، ممّا حدّى بكبار المسؤولين العاملين في شورى القضاء العالي إلى التصريح بأنّ من لا يرغب بهذا البيان يمكنه تقديم استقالته بكلّ حرية. وقد قام البعض فعلاً بتقديم استقالته، لكن الإمام لم ير في ذلك فائدة، ولم يكن ليسمح بإعطاء فرصة ذهبية للأعداء باستغلال الموقف ضد الثورة، فأرسل (قدس سره) بطلبهم، وعرض عليهم العمل في مواقع أخرى من الدولة، وقُبلوا ولو بعنوان مستشارين في الشؤون المختلفة.
إنّ هذا الموقف قد حمل دلالات كبيرة، كان من أبرزها الاعتدال والعقلانية التي كان (قدس سره) يتمتع بها على الصعيد السياسي، والتعاطي مع الأحداث والمواقف السياسية، بل إنّ مواقفه، وخطاباته كلّها تشير إلى ذلك، كما أنّه كان يسعى إلى ضرورة حفظ كرامة ومكانة الجميع، وهذا ما يجعلنا نعلن بصراحة أنّه ما من أحد يستطيع القول : إنّ الإمام ظلمني! أو إنّ الإمام طردني! وهل ثمة دلالة أعظم ممّا كان يدعو إليه في خطاباته السياسية، ومواقفه التي كانت تؤكد على سموّ أخلاقه، وسعة إحاطته بالأمور، وغناه عن دعم الآخرين، إذ كان همّه الشعب وكوادره الثورية، وإعلاء كلمة الله فوق كلمة الباطل.
لقد كانت سياسة الإمام تقوم على أساس القناعة واحترام الناس على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والعلمية، وكان يدعو دائماً إلى الحفاظ على مكانة الحوزة العلمية، باعتبارها السند الأساس الذي يلتجئ إليه الناس في حاجاتهم الشرعية والعملية، والمرجع الأبرز للشعب في فهم الأحداث اليومية، فالثورة والإسلام والناس وكلّ شيء يجب أن يكون برعاية الحوزة، ولاشيء يعادل التمسّك بها، لذا كان (قدس سره) لم يتوان فعل أيّ شيء للتأكيد على دور الحوزة العلمية في انتصار الثورة المباركة، والدعوة إلى استقلاليتها وعلمائها وأساتذتها، كان الإمام لا يدع فرصةً إلاّ وأكّد من خلالها على دور ومكانة الحوزة ومراجع التقليد، وكان يذكّر الناس عموماً، والشباب خصوصاً قائلاً : جالسوا المراجع والعلماء، وتكلّموا معهم، واستفيدوا منهم.
لقد كانت سيرته عطرة على هذا الصعيد، وتشير إلى قوة وعظمة شخصيته وتميّزها عن الأخريات، سواء كان فرداً معارضاً للنظام أو كان قائداً وزعيماً للأمة، لم تتغيّر نظرته تجاه الآخرين، ولم يلبسه شيء كما لبس الآخرين من زعماء العالم من غرور وطغيان. فحينما توفّي نجله السيد مصطفى رحمه الله في العراق، وقام آية الله الخوئي بمسؤولية الصلاة عليه ودفنه، لم ينس الامام قط هذا العمل الأخلاقي الذي قام به هذا المرجع في النجف، ففضلاً عن كونها مبادرة تحمل من الدلالات السياسية الكثيرة، فهي أيضاً تعدّ موقفاً أخلاقياً يحتذى به، فلم تأخذه الأهواء النفسية، ولا الضغوطات التي كان النظام البعثي في العراق يمارسها ضد أهل العراق لترعبه وتحول بينه وبين ما يقتضيه الواجب تجاه عالم آخر يقطن بلداً آخر ويعاني ظروفاً استثنائية.
كان من سيرة الإمام (قدس سره) احترام الآخرين بمنطق خاص، ويفيض بعطفه على كلّ من ساهم في هذه الثورة ومن لم يساهم، أعانه في كفاحه ومن لم يعنه.
وجدير بنا ذكر هذه الخاطرة، والتي تدور حول آية الله سيد مصطفى الخوانساري أحد علماء قم الكبار، فرغم أنّ هذا الرجل كان معاصراً للإمام، إلاّ أنّه لم يكن يبدو راغباً في تقديم الدعم لحركة الإمام ونهضته منذ انطلاق شرارتها الأولى، بل ولم يساهم في شيء حتّى بعد انتصارها رغم معرفته بالإمام وبحيثيات الثورة، وانطلاقاً من احترامنا للشخصيات العلمية في الحوزة، كنّا نزوره بين الحين والآخر، ونذكر أنّه فاجأنا مرةً حينما كنّا بزيارته في بيته أن أبدى احترامه الشديد لشخص الإمام، ولمّا رأى علامات التعجّب واضحة علينا، أسرع فعقّب بالقول : إنّ أخاكم كان يزورنا باستمرار، وفي كلّ مرة كان يحمل لي شيئاً من المال يرافقه سلام وتحية خالصة واحترام من الإمام، ولمّا أسأله: وهل قال ذلك لك أم هو من عندك ؟ يجيبني قائلاً : إنّ الإمام يشدّد عليَّ أن أبعث بسلامه لك، وأن أسألك عن صحتك وسلامتك!
إنّ هذا الخُلق السمح السامي يمثل إحدى العطاءات التي كان (قدس سره) يفيضها على الجميع، حتّى أسّس مدرسةً صار يتعلّم فيها الناس السلوك الصحيحة والأخلاق الحميدة في تعاطيهم الأمور اليومية.
ولا بأس أن نروي رواية أخرى تصبّ في هذا المجال، وتدلّ على مانقوله، كانت ثمة دار نشر معروفة باسم (الشهيد محبّي)، وكانت تملكها امرأة، وهي أيضاً تقوم بادارتها، ولم يكن لهذه المرأة سوى ابن واحد يعيش في انجلترا ويعمل مهندساً، وبعد عودة الإمام إلى إيران، ومشاهدتها هذه المرأة ـ كغيرها من أفراد الشعب ـ سيرة وخلق الإمام، والخطابات التي كان يطرحها بلغة شفافة وصادقة، أحبّته كأفراد الشعب الآخرين، لدرجة أن أرسلت إلى ولدها الوحيد أن يحضر إيران ويشارك مع إخوانه في الدفاع عن الثورة الفتية، وأن يخدم الإمام وحركته الثورية، وفعلاً جاء ولدها، وشارك في عمليات الجبهة واستشهد! وأضحت دار النشر المذكورة تنشر فكر الإمام والكتب اللائقة بعدما كانت تنشر زمان النظام البائد كتباً غير مفيدة!
والآن، ما هو الدافع لهذه المرأة على إرسال ولدها الوحيد إلى الجبهة، وهو المهندس المرموق الذي كان يعمل في انجلترا؟ أليس عقلانية الإمام واعتداله أدّى إلى عشق الناس جميعاً له، والتفافهم من حوله؟
لقد كان الإمام يعيش مع الناس في كلّ لحظاتهم اليومية، ويهتم بشؤونهم اليومية، حيث كان بابه مفتوحاً للزائرين على طول الوقت، لا يمتنع من لقاء أحد إلاّ القلّة من السياسيين الذين كانوا يتحينون الفرص لضرب الثورة، وكان أيضاً ينظر إلى الزمان والمكان نظرة خاصة، ويرى دورهما على صعيد إصدار الأحكام، وتأسيس القوانين، ويرى من الضروري جداً التعامل مع الأجيال حسب ظروفها المحيطة، وزمانها الذي تعيشها.
لا أكتمك، إنّ افتقادنا لشخصه الكريم لكبير ولو أنّ ثمة من يذكّرنا به وبسلوكه المعتدل الشريف، ونقصد به حجة الإسلام والمسلمين السيد حسن الخميني وإخوانه الأبرار، وهم بضعته وريحانته.
نعم، ثمة من لم يكن يرغب في مماشاة الإمام (قدس سره) في مسيرته، ويحاول أن يجرّ نفسه عن التيار الزاحف، ورغم ذلك لم يبد الإمام أيّة مبادرة سلبية نحوه، ولم يمارس أيّ ضغطاً عليه وإن أبدى تحفّظاته تجاهه.
□ ألا يعتقد سماحتكم أنّ إثارة الشبهات من جانب البعض لا تجدي نفعاً، خاصة وثمة تيار زاحف، وعلى ضوئه فلا فائدة من مواجهة هؤلاء ؟
◙ نعم لو كان إثارة الشبهات للزينة والمتعة، لكن لو كان على أساس تحقيقي فلا، لذا ينبغي التصدّي وإبداء التحفّظات تجاهها.
□ في هذا الوسط الزاخر بالأحداث آنذاك، كيف كانت نظرة الإمام الراحل تجاه رأي الناس ومنحهم أصواتهم للمرشحين للانتخابات؟
◙ إنّ نظرة الإمام الراحل (قدس سره) تجاه هذه المسألة لم تكن لتقلّ عن نظرة منظّري الديمقراطية المعاصرة بل تزيد عليها بشيئين : الأول: أن الرأي والاقتراع يجب أن يكون بكلّ صدق وأمانة ومن دون نفاق، فضلاً عن أن يكون بحرّية تامة، والثاني: أن يصدر عن كلّ الأمة، فلا رأي وانتخابات لخمسين نفر ولا لمائة ولا لميليون، بل لكلّ الشعب بملايينه، وأنّ الناخبين الذين تتوفّر فيهم الشروط ينبغي أن يبدوا بآرائهم كي تكون الانتخابات ذات طابع حقيقي وشفّاف. فلو فرضنا أنّ تعداد الناخبين الذين توفّرت فيهم الشروط للمشاركة في الانتخابات كان (10) ملايين نسمة فالنسبة التي يجب أن تشارك عملياً لا تقل عن 70 %، أي يجب أن يكون تعداد الناخبين 6 ـ 7 ملايين نسمة، وهو الرقم الذي كان الإمام يدعو إليه في كل عملية انتخاب كانت تقام في بلادنا، وهي نظريته في الديمقراطية، وكان يرى أنّ من يرضى بـ 10 % من الأصوات أو يستخدم أساليب الغشّ والتمويه في العملية فإنّ التاريخ والشعوب سوف تقوم بمحاسبته.
□ امتاز خطّ الإمام الراحل بجملة مميزات وخصائص، هل يمكنكم الإشارة إلى أهمّها؟
◙ اتّسم خط الإمام (قدس سره) ببعض المميزات التي يجدر شرحها ودراستها على مستوى أكبر، ومن أبرزها وأهمها : العدل والإنصاف. يعنى كانت نهضته تقوم على أساس فكرة «حبّ لأخيك ما تحبّ لنفسك» وهي الأساس الذي دقّ مسماره أهل البيت عليهم السلام، واتّخذها الإمام ـ وهو أحد ذرّيتهم ـ شعاراً منذ الخطوة الأولى لانطلاقته. لقد سعى إلى تقديم صورة شفافة عن هذه الثورة المباركة ومنجزاتها إلى كلّ العالم، من خلال خطاباته التي تترجم نظريته الإسلامية تجاه الدولة والحكومة ومؤسساتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ودعواته المستمرة إلى الناس بالانضمام إلى الحشد الملاييني من أجل البناء والتطور، إضافة إلى دعمه الكبير إلى النشاطات والفعاليات السياسية والاقتصادية التي تصبّ في مصلحة هذا الشعب المحروم والدولة الإسلامية الفتية.
ولعلّ من أبرزها دعم عملية الانتخابات التي تجري في البلاد وعلى مستويات عدّة، من خلال التأكيد على المشاركة في هذه العملية السياسية المهمّة بصورة واسعة، لأنّها ـ فضلاً عن كونها مساهمة في البناء الديمقراطي والحضاري الذي تتطلبه المرحلة الراهنةـ تمثّل تحدّياً للأعداء والمخالفين، وتقويةً لشوكة الإسلام ونظريته السياسية.
إنّ نهضة الإمام (قدس سره) قد قامت على سواعد الجماهير المؤمنة بهذا الدين وبالثورة على الأوضاع المأساوية التي كانت شعبنا يعيشها بكل تفاصيلها الصعبة، ولذا فمن حقّ الكلّ المساهمة في البناء والتطوير، والاستفادة من الفرص التي هيّأتها الثورة لهم، من خلال تطبيق مبدأ الانصاف والعدل على صعيد العمل والتوزيع والانتماء.
وأمّا المسند الآخر الذي كان الإمام رحمه الله يتكأ عليه في نهضته ثورته فهو الحوزة العلمية المباركة، إضافة إلى ما كان يقوم به أفراد هذه الحوزة ورجالاتها من مهمّة المراقبة والمتابعة، والنزول إلى الساحة للمشاركة والتصدّي، إذ إنّ أعظم جرحين نخرا جسد الأعداء هما : خطابات الإمام (قدس سره)، والحوزة العلمية المباركة. لقد لعب رجال الحوزة دوراً بالغ التأثير في التصدّي لمؤامرات الأعداء، وتفتيت ما يبنيه من حيل ودواهي، وأيضاً الكشف عن حقيقة ما يريده من هذا الشعب، وتوعية الجماهير بمتطلبات المرحلة.
لقد فشل الاستكبار العالمي في ضرب الحوزة رغم أساليبه الماكرة، وتلقّى ضربات موجعة من رجال الحوزة وكبّارها، قبل انتصار الثورة وبعدها رغم ما قيل بأنّ لهم أساليب وحيل ماكرة بحيث يمكنهم من بيع الخمر في باحات المدارس الدينية!! كانت خطابات الإمام على الدوام تشيد برجال الحوزة الواعين والمدركين بخطورة الموقف، وتدعوهم إلى العمل والبناء، والنزول إلى الشارع باستمرار، دون أن تدع فرصةً للنفوذ لأجل طعن الثورة من الداخل، وتفتيت كيانها السياسي الفتي.
مميّزات أخرى...
ومن المميزات الأخرى لخطّ الإمام هو تأكيده على تشجيع الناس على التمسّك بالنظام الإسلامي، وعدم مخالفته بأيّ حال. إذ كان يدعو (قدس سره) كلّ كوادر ومسؤولي الدولة إلى احترام الجماهير وعدم سلب حقوقها المشروعة، ومنحها الفرص الكافية لاستعادة حقوقها المسلوبة، بل والعمل على مساعدتها في ذلك.
كان الإمام (قدس سره) لا يرى نفسه إلاّ كأحد أفراد هذا الشعب، ولم يجعل لنفسه أو حوله هالة يفزع منها الآخرون، وأنّ الثورة ما هي إلاّ عطاءات هذا الشعب ومجموع جهوده المبذولة، وأنّ الثورة ـ بالتالي ـ هي ملك للشعب بكلّ طبقاته وفئاته، فلم يعتمد مقولة «كلّ ما يسعد السلطان يسعد الناس» وإنّما كان يرى «الناس» العنصر الأهم في المعادلة السياسية، وإنّهم السند القوي والظهر الصلب للدولة والمسؤولين، وبالمقابل أنّ المسؤولين ما هم إلاّ موظّفون لخدمة الناس وقضاء احتياجاتهم.
ولاشكّ أنّ هذه المعادلة أوجدت جوّاً مستقراً في الشارع الإيراني، تعزّزت بها قوة الحكومة والنظام الإسلامي الجديد. وكان الإمام يحّبب النظام للناس فأحبّه الناس، إذ لم يكن (قدس سره) يدعو الشعب إلى الانحناء إلى الحكومة ورموزها، بل كان يدعوهم إلى احترامهم ودعمهم بالصورة الشرعية.
لقد كان الإمام يدعو ويؤكد في خطاباته السياسية على تسير الأمور وفق الموازين الشرعية، ويرفض الفوضى وكلّ ما من شأنه إعادة موازين العهد البائد، بل كان يدعو إلى التجربة الإسلامية على كلّ الأصعدة، فإذا فشل منهج اجتماعي أو اقتصادي أو تربوي على نطاق خاصّ، دعا إلى تغييره واعتماد منهج آخر يراعى فيه الموازين الشرعية والخُلق الحميد، وعدم الاتكاء على النسخ المكرّرة، ولا المعلّبة في الغرب أو الشرق.
إنّ هذا التوازن في المعادلات السياسية، والمرونة في النظر إلى الأشياء، والحكمة في تتبّع الأفضل، وإعمال الدقة في العمل، والإخلاص في النيّة... كلّ ذلك أدّى إلى نجاح الثورة والتجربة السياسية الإسلامية على المستوى العالمي، وأنّ أقلّ ما يقال : إنّها تجربة حضارية ومتقدمة. وهذا لم يكن لولا توافر عنصرين رئيسين: شخصية القائد الفذّة، والجماهير المؤمنة. فالعنصر الأول ألهم الأفكار البنّاءة والمتحضّرة للناس، والثاني سند الأول وأضحى ظهيراً متفانياً له، فتكاملت المعادلة، وثبت الانتصار الذي أدهش الغرب والشرق معاً.
كما ويبدو لنا أنّ التأكيد على نكتة مهمة على هذا الصعيد يعدّ أمراً في غاية الضرورة، وهي أنّ الإمام ومن خلال تجربته الطويلة إبّان جهاده وكفاحه المريرة للنظام الفاسد، وقيادته الفذّة للثورة على الواقع السيّء، قد وقف على جملة من العوامل التي يمكن أن تشكّل بمجموعها قوة دعم للثورة وأبنائها الأبرار، ومن هذه العوامل عدم إساءة الظنّ بالآخرين حتّى يثبت بالدليل عكس ذلك، لذا كان (قدس سره) لا يرغب في إكراه الشعب على الالتزام بكذا، أو إجباره على اتخاذ الطريق الفلاني، بل يدع له كامل الحرية في الاختيار، وإذا اختار قرّره كقانون عام على الجميع التزامه، ولذا لم يكن يرفض فكرةً من أحد، أو مبادرةً منه، حتّى ينظر فيها ويتأمّلها ويستخرج جوانبها الايجابية، فالشبابيك المفتوحة تسمح بدخول الريح النقية فتنعش الإنسان بالهواء النقي.
□ ما يؤسف له حقاً النظرة المتحجّرة إلى الإسلام باعتباره سلسلة طويلة من المحرمات أو التمسّك بما قاله المتقدّمون... قد أوجدت بعض الضرر في أصل النظام الإسلامي، هل يمكن لسماحتكم التحدّث قليلاً عن رأي الإمام تجاه هذا التيار المتخلّف ؟
◙ إنّنا نعتقد ـ على أساس دلائل كثيرة ـ أنّ هذه الشريحة يجب أن تُدرج ضمن خانة الغوغايين، من حيث يشعرون أولا يشعرون، وأنّهم يشكّلون خطراً محدقاً بالإسلام والمسلمين، ومن هنا كان الإمام يشعر بهذا الخطر، ويشدّد على مقاومته وضرورة إزاحته من أمام عجلة النهضة والثورة المباركة. إقراً إن شئت صحيفة الإمام المطبوعة ستجد مواضع كثيرة من خطبه وبياناته تشير إلى ماهية هذه الشريحة، ومدى خطورتها على مستقبل المسلمين ونهضتهم. كما أنّه لا تجد ولا موضعاً واحداً يشير إلى الإسلام وحركته قد اعتمد في يوم من الأيام على هذه الشريحة المتخلّفة، أو أنّه أسند إليها مهمةً ما.
نعم ربّما تقول: إنّ هذه الشريحة كانت قد ساهمت في تأليب الأوضاع على النظام البائد، وهو ما ساعد على قيام الثورة، سواء في الداخل أو في الخارج، أقول: صحيح ذلك، لكنّه كان مساوقاً للوضع الثوري الملتهب آنذاك، والجهود المبذولة التي بذلها الإمام على مدى خمسين عاماً.
فالإمام (قدس سره) قد ذاق الأمرّين في سبيل ذلك، من سجون وضغوط ومضايقات في المعيشة، وطرد وتبعيد وتشويه الصورة و... كلّ ذلك واجهه بصبر جميل وتدبير حكيم، حتّى أثمرت جهوده هذا الانتصار الساحق على كلّ أعدائه الذين هم أعداء الإسلام والعقيدة والإنسانية، وفي ظلّ هذه المناخات المتوهّجة والجو الساخن، كانت تعمل هذه الشريحة، فالفضل ليس لها، بل لجهود أصحاب النهضة والحركة والكفاح الواعي الذي كان يقوده الإمام (قدس سره) وهو في المنفى.
إضافة إلى ذلك المبادرات والمواقف التي كان يسجّلها الإمام في تعاطيه السياسي، وخطاباته التي كان يلقيها على مسامع العالم، وكلّها تشير إلى تصلبّه المبدئي، وزهده في الدنيا وزخارفها، ألم يعرض عليه في النجف المال والرفاه والمسكن الكبير، فرفضها جميعاً ؛ إخلاصاً لحركته وشعاره الإسلامي ؟ بل إنّه رفض حتّى نصب مكيّف للهواء وهو الرجل الكبير المسنّ في أيام الصيف الساخنة في النجف، قائلاً لكلّ من يقترح عليه ذلك : إنّ الناس في إيران لا يملكون حتّى المروحة العادية الرخيصة، فكيف تطلب منّي أن أضع مكيّفاً للهواء ؟! إنّ شخصاً يشعر بهذا الشعور السامي، لابدّ وأن يكون الانتصار حليفاً له، إذ كان بإمكانه قبول العرض، والتمتّع بالهواء البارد، وباستطاعته أن يأخذ المال على حساب قضيته، ومن دون علم أحد، لكنّه ليس بالشخص الغوغائي المتحجّر الذي يرى بعين واحدة، ويمشي برجل واحدة. ولذا اؤكّد هنا أنّ ما يكتبه البعض من المرتزقة والبطّالين حول الإمام لتصغير شخصيته، وتحقير نهضته، فهو كذب، وغير قابل للتصديق.
□ لا شكّ أن السياسة في فكر الإمام كان تحتلّ حيّزاً هائلاً ؛ نظراً لطبيعة الظروف التي اقتضتها نهضته، فهل لكم أن تحدّثونا عن طبيعة هذه السياسة ومكانتها في فكر الإمام الراحل؟
◙ لا أظنّ أن أحداً لا يعلم ما كانت أحاديثه وخطبه تتضمّن من أفكار ومشاريع ومبادرات سياسية قيّمة، من قبيل تدبير أمور المجتمع، ومعالجة المشاكل الطارئة، وإيجاد سبل العلاج والحلول المناسبة لها، فأثبت من خلال ذلك أنّ للإسلام فكراً حيّاً نابضاً بالنشاط والمرونة، وانّه يمتلك نظاماً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتربوياً بارعاً ينافس المذاهب والمدارس والاتجاهات المعاصرة.
لكن الملفت للنظر أنّ الإمام كان يركّز على بُعدٍ آخر على الصعيد السياسي والاجتماعي، في قضايا الأمة والمجتمع، وهو مسألة العدالة والإنصاف في التعاطي مع أمور المجتمع وحياة الناس، ويدعو إلى التركيز على هذه المسألة بصورة عملية، وجعل ذلك قانوناً أساسياً لكلّ مقترح أو مشروع في هذا السبيل.
كان الإمام (قدس سره) ينظر إلى هذه القضية نظرةً خاصة، ويرى أنّ كل مسائل حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية والخدمات الاجتماعية والتسهيلات الاقتصادية و... لو خلت من حقيقة الإنصاف والعدل، فحينئذٍ تفقد كلّ هذه المسائل معناها الحقيقي، ولم يعد لها مصادقاً أبداً، بل سوف تنقلب الموازين، ولم يعد الحق حقاً ولا العدل عدلاً، إذ يصير الحقّ باطلاً، والباطل حقاً.
إنّنا إذا أردنا أن نقف على منهج الإمام السياسي والاجتماعي بصورة دقيقة، فيجب أن نلتفت ونتأمل خطاباته وآرائه، إضافة إلى مواقفه السياسية التي كانت تنمّ عن تصوّره إلى الحياة والدولة والحكومة، علاوة على كونه يمثّل الوليّ القدوّة الحسنة التي تهدي الناس إلى الرشاد، فهو رجل دين وفقه قبل أن يكون إماماً وقائداً سياسياً للدولة والأمة.
ولعلّ من أبرز مباني الإمام السياسية هي ضرورة الاعتماد على الجماهير كعنصر فعّال في المعادلات السياسية، فقد كان (قدس سره) يكنّ الاحترام الكبير لهذه الجماهير المسلمة منذ أن خاض خطواته الأولى باتّجاه نهضته العارمة ضد النظام البائد و أذنابه. ولم يكن الإمام ليهتم بنفسه وعائلته بقدر ما كان يركّز اهتمامه على هذا الشعب ومحاولة إنقاذه من مخالب المنتفعين والمستعمرين، لأنّه (قدس سره) كان يعدّ ذلك وظيفة دينية شرعية قبل أن تكون وطنية، فكان يعارض كلّ إجراء تتّخذه الحكومة الشاهنشاهية ويعود ضرره على الشعب، ويحاول أن يكشف مساوئ هذا الإجراء من كلّ جوانبه الدينية والإنسانية، ويظهر حقيقته علناً، كما حدث عام 1343 ش (1964 م) حينما قام النظام البائد بتصويب قانون يمنح المزيد من الفرص للرأسمالية من أن تجثم على صدر هذا الشعب المرهق الفقير، فانتفض الإمام بمعارضة هذا القانون الجائر، وعدّه مجحفاً بحقوق الشعب المحروم، ويجب إلغاؤه.
ومن النقاط المضيئة في فكر الإمام الراحل هو تأكيده الدائم على ضرورة حفظ وصيانة الثقافة الإسلامية من كلّ ما يضرّها من تحريف وتغيير، ونشر الفكر الديني الأصيل من خلال نشر التراث القديم الذي خلّفه كبار علماء الحوزة العلمية، باعتبارها معالم أصيلة للثقافة الإسلامية. ودعواته (قدس سره) وتأكيداته هذه لم تكن اعتباطاً، بل كانت تقوم على فلسفة خاصة أراد منها الإمام الردّ على من كان يروّج للثقافات الوضعية، ويدفع ما كان يهرّج به أزلام النظام البائد من أنّ الحوزة من الضعف والوهن لدرجة أنّها لا تضمّ سوى «حفنة من الأميّين» الذين لا يفهمون شيئاً عن التطور العلمي والحضاري الجديد!
نعم كانت هذه المقولات والمفاهيم التي يهرّج لها النظام البائد اعتقاداً منه أنّه بهذه الوسيلة سوف يصل مبتغاة، وهو تحطيم قدسية وعلمية هذا المركز الإسلامي العريق والمهم في العالم الإسلامي. وللردّ على أمثال هذه المقولات و المفاهيم المفتراة، قام الإمام بالدعوة إلى طبع ونشر تراث هذا المركز، من كتب وإبداعات ومؤلّفات ورسائل علماء ومجتهدي الحوزة العلمية المباركة لكي يقف العالم على الدور البالغ الأثر في تحقيق السعادة للبشرية، وردع كلّ المسارات الخاطئة التي كان يؤسّسها الطغاة والمتجبّرون من أجل المزيد امتصاص ثروات الشعوب.
وممّا ساعد الإمام على تبنّي مثل هذه الدعوات هو وعيه الكامل لمتطلّبات المرحلة الراهنة (آنذاك) وإدراكه لحاجات الشعوب التي مرّ بها وعاش في كنفها لسنوات، من خلال أسفاره المتواصلة، وعمليات تبعيده القسري التي كان يئن من وطأتها إبّان مراحل نهضته الأولى، فتوفّرت له الفرص للوقوف عن كثب على مشاكل مسلمي العالم، ويواجه أسئلة الشعوب المحرومة وجهاً لوجه، فتولّدت لديه قناعات خاصة على هذا الصعيد.
لقد وجد الإمام (قدس سره) أنّ الأسلوب المناسب لمواجهة الدعايات المروّجة ضدّ الحوزة العلمية ورجالاتها، والافتراءات الصادرة عن المؤسّسات الاستكبارية، هو الكشف عن الحقيقة الناصعة لكلّ الناس، من خلال الكشف عن نشاطات هذه المؤسسة العلمية والثقافية والدينية، ونشر ما قدّمته من بحوث ودراسات متعدّدة الجوانب، وتبين الواقع بأنّ الحوزة ما هي إلاّ مؤسسة دينية إسلامية حضارية تقدّم الدعم لكلّ مشروع يخدم المسلمين، وترفض ما يضرّهم، لذا فهي تمارس نشاطات «لوجستية» للمشاريع الخيرة، وليس هي أوكار مظلمة كما يروّج لها الظالمون.
لقد وجد الإمام أنّ الوقت قد حان للكشف عن وجه الثقافة الإسلامية الأصيلة التي طالما ظلّت مهجورة وممنوعة لسنين طويلة، وإظهارها إلى العالم بصورتها الحقيقية، وذلك عن طريق الاهتمام بالإرث الأصيل الذي خلّفه علماء وباحثون كانوا قد درسوا وتخرّجوا من هذه الحوزة المباركة. بل كان الإمام وأثناء وجوده في النجف، ولقائه بعلماء وأساتذة حوزة النجف الأشرف، يشرح لهم مكانة الحوزة العلمية بقم، وما تبذله من جهود في سبيل المقاومة والمعارضة، وتهذيب النفوس، وتخريج كوادر تتمتّع بذهنية متّقدة، وتزوّد المذهب بالعلوم العقلية والنقلية، فضلاً عن الحكمة والعلوم الإنسانية الأخرى.
□ كان للإمام دور في إحياء «الجمهورية» و «الأغلبية» في النظرية السياسية، فهل لسماحتكم الحديث عن هذا الدور، وكيف كان ؟
◙ إنّ من بركات وجود الإمام وثورته المباركة هو إحياء وتفعيل أصل «الجمهورية» و «الأغلبية» في النظرية السياسية الإسلامية. ولا نظنّ ـ على طول تاريخ الفقه الشيعي ـ أن ثمة رجل فقيه نجح في تفعيل هذا الأصل كما صنع الإمام الراحل. فقد نجح في إعمال أصلين مهمّين كانا مهجورين منذ مدة مديدة، وهما «الجمهورية» و «الإسلامية» على المستوى التطبيقي والعملي للنظرية السياسية.
والبحث هنا ليس بحثاً استنباطياً، ولا له علاقة بالرسائل العملية، بل هو بحث في إطار «حاكمية الناس» ودور الناس في وسط المؤسسة السياسية للبلاد. والمسألة ليست بهذه السهولة المتصوّرة وخاصةً في بلدٍ كبلدنا ؛ إذ إنّ الشعب المسلم في إيران كان يئنّ تحت وطأة الاستبداد والديكتاتورية لقرون من الزمان، وتتابعت عليه حكومات لا تقرّ بالديمقراطية، ولا تهتمّ برأي الشعب بتاتاً، فنشأت أجيال متلاحقة تحت ظلّ العبودية للحاكم المطلق والرضوخ للسلطان المتجبّر، والخوف من سطوته وجنوده، حتّى جاء الإمام وهو رجل الدين الزاهد الذي راح يكشف للناس حقائق الحكومة والطرق الصحيحة لإدارتها، وشرع بتقليب الأوضاع بخطاباته العلنية لجموع الجماهير المحرومة، فطرح نظرية سياسية قائمة على أساس «الجمهورية» و«الإسلامية» وتعزيز حكم الشعب وإرادته في قرارات الدولة وإجراءات الحكومة، وأنّ الاستبداد شيء مقرف وظلم يجب إزالته.
ولا بأس الإشارة هنا إلى أنّ لـ «حاكمية الناس» حيّزاً مهمّاً في الفقه الشيعي، واهتماماً بالغاً عند فقهائنا، بل يمكننا تصوير الأمر هكذا، وهو أنّه إذا ماحصل أن تُركت لنسيان أو لغفلة أو لقصور نظر عند الفقيه فهذا يعني أنّ الناس أضحوا ضمن لا يعقلون ولا يشعرون! وبالعكس الاهتمام بهذا الجانب يعني أنّ المخاطبين هم ممن يعقلون ويشعرون.
وقد سعى الإمام الراحل إلى طرح هذه الفكرة، وتعزيزها في أذهان وعقول الجماهير المسلمة في بلادنا منذ أن خطا خطواته الأولى باتجاه النهضة وحتّى انتصارها، وأثبت خلال هذه المدة الطويلة أنّ رأي الناس مهم بدرجة كبيرة، وأن على الحكومات المتعاقبة أخذه بنظر الاعتبار، وأنّ أيّ قرار تفصيلي يؤخذ في البلاد من دون رأي الشعب لا يعدّ مشروعاً طالما كان الاستبداد حاكماً، لأنّ الناس هم الذين حافظوا على كيان الدولة من الهجمات، وهم الذين حفظوا الحوزات العلمية من أن تنالها ايادي اجنبية، وصانوها من أن تقع بيد أصحاب النفوذ والقوى الحاكمة، وهم أيضاً الذين أداروا المعارك في جبهات الحقّ ضد الباطل، وأضحوا مفخرة لهذه البلاد وللإسلام الحنيف.
ويجب أن نشير هنا إلى مسألة لعلّها غير واضحة عند الناس، وهي أنّ لـ «الغالبية» و «الأكثرية» دوراً مهماً في المباني الفقهية، وذا أثرٍ في بعض الأبواب، دعنا نأتي بمثالٍ كثير ما يشهده الناس، وهو إمامة الجماعة، فمن شرائطها كون الرجل ممّن لا يكره الناس إمامته في الجماعة! فإذا كره «أغلبية» الناس إمامته في الجماعة، فإنّه يكره الصلاة وراءه، بل إنّ بعض فقهائنا قد حرّمها، كما ذهب إلى ذلك صاحب الحدائق الناضرة على أساس دلالة بعض الروايات، بل ذهب إلى أكثر من ذلك وهو أنّه لو اختلف الناس في إمامة الجماعة في عددٍ من الأشخاص، كلّ فئة منهم ترغب شخصاً معيّناً دون الآخرين، فالشخص الذي تطلبه الفئة الأكثر (الأكثرية) هو الإمام، وعلى الآخرين الائتمام به دون أصحابهم، ولا يحقّ لهم غير ذلك.
ألا ترى دور «الأكثرية» في هذا الباب، وما يبديه فقهنا من اهتمام تجاهها؟ لذا كان الإمام الراحل يدعو إلى ذلك في كثير من خطاباته للناس وللمجتمع، على أساس أنّ الناس أحرار في تعيين مستقبلهم، وعليهم تقع مسؤولية بناء دولتهم وإدارتها، ولا يجوز قسر الناس على فعل شيءٍ ما أو إجبارهم على اختيار أمرٍ ما وهم له كارهون.
نعم يستثنى من ذلك إذا خالفوا شرع الله سبحانه وتعاليم نبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين، عندئذ يجب التدخّل لمنع الناس عن ارتكاب المحارم والجرائم، وإعادتهم إلى شرع الله الخالد.
لقد جاء الإمام بالإسلام الصحيح والأصيل للبلاد، المبني على شعار حب لأخيك ما تحبّ لنفسك، وضرورة احترام الآخرين، و «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»... وغيرها من المبادئ والشعارات التي أتى بها نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وسار عليها المسلمون منذ صدر الإسلام وحتّى يومنا الحاضر، بل وراح يعزّز مكانة الفقه في أوساط الجماهير الغفيرة باعتباره مصدر الحقّ الذي جاء به النبي وأهل بيته الطاهرون، ويدعو إلى تطبيق ما أمر به القرآن من تعاليم وارشادات، لا ما جاء به الغرب أو الشرق من قوانين وضعية وناقصة ولا تنهض بالمطلوب. وهذه الدعوات هي حقائق يشهد لها تاريخنا المعاصر، ويجدها كلّ من تابع سيرة ومراحل هذه الثورة المباركة.
ولم يكتف بذلك (قدس سره)، بل راح يؤسس البنية التحتية للدولة الإسلامية المعاصرة ويشيد القواعد لصرح الحرية والديمقراطية، والبناء والتطوير، لتتمتع بانجازات هذه الثورة أجيال متعاقبة، وليس لجيل واحد. وفي هذا الاطار اعتمد الإمام (قدس سره) على عاملين في تعاطي ذلك : الأول : الحوزة العلمية ورجالاتها الاكفّاء الذين جعل منهم الإمام السند الأول الذي تقع على عاتقه مسؤولية تلبية متطلبات المرحلة الراهنة، فلم ينفرد بالأمر كما يتصوّره البعض، وإنّما إذا أراد طرح مشروع أساسي في البلاد كان يطرحه بادئ ذي بدء للمناقشة لغرض إيجاد سبل تطبيقه، والثاني: الجماهير الغفيرة التي أراد منها السند الأعظم الذي يتكأ عليه في نهضته الكبرى.
وبعد انتصار الثورة المباركة راح (قدس سره) يؤسّس المشاريع الكبرى في مجال الصناعة والتعدين والزراعة والصحة والضمان الاجتماعي والصحي والتربية و... فكان يشدّد على أن كلّ ثروات البلاد إنّما هي ملك للشعب، وله الحقّ في مشورة حكومته في هذا المضمار، كما كان يؤكد على إحياء ونشر ميراث الماضين وآثار المبدعين من هذا الشعب للإفادة منها أولاً، ولإظهار حضارة هذا الشعب الذي ظلّ محروماً من أبسط حقوقه لسنين مديدة ثانياً، ولإثبات هويته أمام العالم أجمع ثالثاً.
□ من الجوانب المتعلّقة بشخصية الإمام، والتي قليل ما تذكر، هو الجانب الأخلاقي، فهل لكم أن تحدّثونا قليلاً عن هذا الجانب؟
◙ سؤال ظريف، لكنّنا نودّ التأكيد على شيء، وهو أنّ الإمام لم يكن قائداً فحسب بل كان معلّماً ومربّياً أخلاقياً أيضاً، ومن الدرجة الممتازة.
فرغم كلّ الصعوبات والمطبّات التي واجهها، وحالات التبعيد والإكراه، وكلّ الضغوطات النفسية والجسدية التي تحمّلها، كان لا ينسى دوره كمعلم أخلاق وتهذيب النفس أبداً، سواء لأقرب الناس إليه وهم أولاده وأحفاده، أو لأبعدهم منه، لم تكد تفوته حادثة إلاّ وصرّح برأي الشرع فيها والأخلاق، وما يجب اتخاذه من تدابير تجاهها ولو كان الحدث صغيراً ويسيراً.
يحكي السيد أحمد ولده رحمه الله وهو يستذكر أيام طفولته قائلاً : كنّا أطفالاً نلعب، وحدث أن نسينا وقت الصلاة، فلم يزيد أن حدثنا بشيء ذكّرنا من خلاله بالصلاة، ففزعنا وهرولنا إلى الداخل لأدائها قبل غروب الشمس. لم يكن الإمام بالشخص القاسي ولا المتعجرف، وإنّني ـ والكلام للسيد أحمد ـ لا أذكر ولا مرّة واحدة قال لي أو لأخي: قم فصلِّ ! بل كان يثير فينا الحوافز تلو الحوافز كي لاندع صلاتنا أبداً.
كان الإمام لا يأمر بالشيء مباشرة، لكنّه يحاول يثير في الناس الدوافع نحو ذلك الشيء فتقوم به ولو كانوا في شغل شاغل. وهكذا في المسائل السياسية والحكومية، كان يتعاطى مع المسؤولين بنفس المعاملة، فهو لم يكن ليأمرهم بالشيء بل كان يحاول أن يرغّبهم في العمل المراد منهم أنجازه.
إنّ الاستراتيجية التي كان يتّبعها الإمام الراحل في سلوكياته اليومية وتعامله مع الآخرين هو تكريس المحبة والاحترام بين أفراد الشعب والمسؤولين الحكوميين، وتعزيز الروابط بين الجانبين بكل الوسائل المتاحة، لكي تقوم على أساس المشاعر الإنسانية النبيلة، لا أن يحكمهما الخوف أو الفزع. فلم نسمع مرّةً أنّه (قدس سره) أصدراً أمراً لأحد بلفظ «الأمر» أو نهى أحداً بلفظ «النهي» المعهودة بين الناس رغم ما كان يتمتّع به من قدرة وسلطان، لأنّه لم يكن ليرغب أن تقوم الحكومة على أساس الخوف والطاعة العمياء، بل أرادها حكومة تقوم على قواعد الاحترام والطاعة الواعية.
هكذا كان سيرة الإمام في تأسيس وأداء الحكومة الإسلامية على مدى 10 سنوات، لم يتدخل يوماً في تعيين أحداً من أولاده ولا أقاربه في سلك الحكومة ومؤسساتها المختلفة، ولم يفرض نفسه يوماً على أعمال الحكومة ووزاراتها المتعددة أو يجبر أحداً على تعيين أو فصل فلان وفلان في أيٍّ من القوى الثلاثة، كان يملك أخلاقاً رفيعة وسامية، يؤلمه أن يسمع بأحد قد ترك عمله أو تقدّم باستقالته حتّى يفهم السبب ويحاول اصلاح الأمر وتذليل المشكلة المستفحلة، ولازلت أذكر حينما حاولت تقديم استقالتي من عملي مرتين، والإمام يرفضها ويبعث لي مستفسراً عن السبب المباشر الذي دعاني إلى ذلك، ومحاولاً اقناعي بالعدول عن قراري.
□ كانت مقاومة وكفاح الإمام ضد التيار المتحجّر وذوي الأفكار المنحرفة كبيرة وشرسة، هل لكم أن تحدّثونا عن هذا الجانب؟
◙ لم يكن هذا التيار بالشيء الهيّن؛ لما كان يمتلك من مكانة موهومة عند تصوّر الناس البسطاء، وما اكتسبه من مقاومة يصعب تحطيمه بسرعة، لذا كان الإمام (قدس سره) قد وضع ما يصطلح عليه اليوم بإستراتيجية مؤثرة يمكنه من خلاله التغلّب على هذا التيار الذي كان يشكّل خطراً على الثورة ومسيرتها النهضوية، فهو بالإضافة إلى ما يصدره من أفكار منحرفة عن الإسلام وثقافته الواعية، كان يمثّل عقبة كؤود تعمل على تثبيط العزائم عن الخوض في التجربة الجديدة، فكان لابدّ من إزاحة هذا التيار عن طريق النهضة، ولم يكن أحد ليستطيع سوى الإمام بما يمتلك من شجاعة ومكانة في قلوب الأمة.
لقد واجه الإمام (قدس سره) تيار المتحجّرين بأسلوبين : البيان والعمل. إذ إنّ الشخص المتحجّر فكرياً كثيراً ما يستخدم عبارات دينية مؤثّرة في الناس كان قد اعتاد عليها ليظلّ طفيلياً ومحافظً على مصالحه الشخصية، ومن صفاته أنّه يرفض كلّ فكرة جديدة، ونهضة جديدة، وحركة جديدة، فهو يؤمن بالواقع السائد على علاّته وأخطائه طالما ليس ثمة ما يضرّ مصالحه الخاصة، فكانت استراتيجة الإمام الراحل تنصّ على مواجهة مثل هذه نشاطات بالبيان الحكيم، ليظهر للناس زيف هؤلاء وكذبهم، إذ القوة لا تنفع في مثل هذه الحالات، أراد الإمام أن يطّلع بسطاء الشعب على حقيقة هؤلاء الثلّة المتخلّفة بأنفسهم، ثم يدعهم هم يتخذون القرار تجاههم، لذا كان الإمام في أكثر من مناسبة، وفي كلّ فرصة سائحة، يكشف في خطاباته الساخنة حقيقة هذا التيار وواقعه الحقيقي، ويثبت خطأه بالدليل القانع، وأن ليس له أساس ليقوم عليه صرحه المزيّف، فكانت خطابات الإمام وكلماته التي كان يلقيها عبر شاشات التلفزة تمثّل حراباً شديدة وطاعنة ضد هذا التيار الغوغائي الذي واجه صعوبة في الردّ على هذه السهام، إذ ليس بإمكانه مقاومة نهضة تعبوية وجماهيرية جارفة، ولا يمكنه أيضاً القدح بالثورة أو إمكان الادّعاء أنّها مرتبطة بالأجانب، إذ الحقائق مشرقة كالشمس لكلّ الناس، لذا واجه أفراد هذا التيار محنة حقيقية من جهتين : الأولى : فقدان مصالحه الشخصية وانقطاعها، والثانية : فقدان مكانته في قلوب وعقول بسطاء الناس، إذ لم يعدّ له مكاناً للتمركز أو الاحتماء فيه.
على أنّ الإمام (قدس سره) لم يكتف بهذا المقدار من المواجهة، بل صار يواجهم عملياً بأنّ يفرغ كلّ ما احتفظوا به منذ سنين طويلة، ويبعدهم عن الساحة إلى حيث الدروب المظلمة حيث لاماء ولاكلأ، من خلال ما كان يثبته الإمام للناس بأن المسلم الحقيقي، والمؤمن الحقيقي هو من يهتم بالإسلام وبالمسلمين، وأنّه لا يخشى أحداً في مواجهة من يريد بالإسلام ضرراً أو بالمسلمين دماراً، وهو أول من يضحّى بماله وعمله ونفسه الكريمة، إذ المسلم لا يقبل الهوان ولا يرضى بكرامة مهدورة، فهو ثائر على الدوام على كلّ واقع لا يمثّل الدين الحنيف بتعاليمه وقيمه ومبادئه الشريفة.
تضحيات جسيمة:
وهذا ما صنعه الإمام بنفسه أولاً ثم أمر الناس باتباعه، لاقى كل المصاعب المريرة بصبر جميل وتضحية وفداء، من اعتقال وسجن رهيب، وخوف وفزع، وطرد وإبعاد، وتهديدات بالقتل والترويع له ولأفراد عائلته، فقدّم ابنه شهيداً عند الله بما كان يفعل به الظالمون، ولم يكن ليتوان أن يقدّم الآخر في هذا السبيل، كان يواجه الضغوطات بقلب مطمئن، ونفس صابرة على طول مراحل مسيرته النهضوية المباركة، فلم يكل ولم يتعب، كان زاده التقوى، ووسيلته الاتكال على الله سبحانه وعلى الجماهير المؤمنة، فأثبت من خلال ذلك شيئين : الأول: أنّ القائد هو أول من يجب أن يضحّي ويفيض بالفداء والإيثار، والثاني: ربّانية مسلكه، وأنّ كلّ مبانيه وأفكاره تقوم على أساس صحيح ومؤثّر، وإلاّ فلماذا هذا الإرهاب والإرعاب الذي يمارسه الطغاة ضدّه إذا لم يكن بشيء ذي أثر ؟!
إنّ مكافحة هذا التيار المتطفّل على الناس منذ مدة طويلة يتطلّب وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً، أنجزه الإمام بصلابة وتحدِّ قلّ نظيره، إذ لا تمرّ فرصة إلا وأشار إلى خطورة هذا التيار، ويبوسة عقول أصحابه، وضعف أساسهم، ووهن صرحهم، وأنّه لا يمثّل الإسلام أبداً بقدر ما يشكلّه من خطر محدق بأفكار وذهنية المسلمين.
لنعطي مثالاً على ما كان يقوم به هذا التيار من طرح للأفكار المنحرفة في وقت كان الشعب في حالة إنذار دائم وهو يخوض حرباً دفاعية شرسة قام بها الاستكبار العالمي للضغط على الناس من أجل التخلّي عن الثورة وعن الإمام، كان هذا التيار يساهم مع تلك القوى المستكبرة في إعمال المزيد من الضغوط النفسية على هذا الشعب المجاهد، وذلك من خلال ما يطرحه من أفكار منحرفة وخاطئة، كأن يقوم بتفسير الآية المباركة:
(ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) تفسيراً مغالطاً، لكن الإمام لم يدع لهم فرصةً في طرح مالديهم، فقام في إحدى خطبه بتوجيه الناس نحو تفسير هذه الآية تفسيراً صحيحاً ووقف ما جاء به المفسّرون من كلا الفريقين، بأنها خطاب لأصحاب المال والثروة، والذهب والفضة، بأن عليهم الإنفاق في سبيل الله، وأن لا يمتنعوا فيلقوا بأيديهم إلى التهلكة، ولا تعني أبداً إلقاء النفس في ميادين الدفاع عن البلاد.
إنّ هذا التفسير الموجز والواقعي قد نبّه أغلب الناس البسطاء من غفلتهم، وصاروا في مناقشة مع أفراد ذلك التيار وطالبوهم بالدليل، ولا دليل، فتقهقروا رويداً رويداً، وفرّوا مهزومين بإذن الله.
كما أنّ الإمام (قدس سره) راح يفيض على الناس في خطاباته ويشجّعهم على الكلام وطرح المشاكل بأسلوب عقلاني ومتحضّر، ويضخّ فيهم أفكاراً تتعلّق بحرية الرأي والفكر، وحقوق الإنسان، و دور الشعب في الحكومة، وأن ثروات البلد هي ملك للشعب، وأن لا مكان للمتطفّلين لا للاستعمار ولا للاحتكاريين في بلدنا المسلم و.... فصارت الجماهير على وعي تام بالأمور الواقعة، والحوادث المتتابعة، وأضحت تمتلك رؤيا جديدة تجاه الحياة والمجتمع، وأصبحت بعد ذلك تنظر للأشياء بعين مفتوحة بعدما سعى النظام السابق إلى أن تظلّ مغمضة لسنين مديدة.
كانت مساعي الإمام (قدس سره) وجهوده المبذولة إنّما هو لأجل توعية الجماهير العريضة بكلّ طبقاتها وفئاتها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تربية كوادر ثورية واعية، تمتلك القدرة الكافية على القيادة وتحمّل المسؤولية، والمؤهّلات اللازمة لتولّي ما أوجبه الله سبحانه عليها، ورفد الثورة بهم من أجل دوامها واستمرار حركتها، وأن لا تنطفئ شعلتها أبداً. لقد ربّى الإمام كوادر مضحية وثائرة لا ترهب الموت ولا تخشاه حتّى حصلت على شرفها الأسمى والجزاء الأوفى، أمثال الشهيد مطهري والشهيد سعيدي، والشهيد بهشتي رحمة الله عليهم، الذين سجّلوا مواقف شجاعة وفاخرة، وكان لهم حضور قوي في ساحة الوغى، وليس هم إلاّ أمثلة قليلة لثمرة الجهود التي كان الإمام يبذلها على مستوى تربية الكوادر ورفدهم بدمائهم الثورة المباركة، من أجل استمرار عطائها، ودوام مسيرتها الصاعدة.
وبالمقابل شعر الناس بمدرسة الإمام (قدس سره) وخطّه الثوري الواعي لمتطلبات الزمان المعاصر، بينما وجدوا التيار الآخر (المتحجّر) يقبع بعيداً عن الأضواء، حيث الظلمة وإعمال الشغب، وصبّ الأفكار الضارة، وليس لهم الاستعداد بالتضحية ولو بأخسّ الأشياء في سبيل الدين والعقيدة.
إنّ من أبرز الأساليب التي اتّبعها الإمام الراحل في محاربة هذا التيار المتخلّف هو العمل والتضحية وتسجيل المواقف الشجاعة، سواء كان بعنوان أحد أفراد المجاهدين من الشعب أو بعدما صار قائداً وإماماً للأمة، لم يدع فرصة إلاّ وانتهزها في طرح ما يكشف حقيقة هذا التيار، لكنّه لم يستخدم سياسة العصا تجاهه مع ما كان يمتلكه من قوة وقدرة، وإنّما سلك مسلك الأولياء في بيان الحقيقة للناس وجعل الناس أنفسهم يدركون خطورة هؤلاء الثلّة، ويتّخذون الإجراء اللازم ضدهم.
والأيام أثبتت أثر سياسة الإمام تجاه هؤلاء، إذ انحلّ التيار، وصار أفراده شذر مذر، وتحطّمت قاعدته الشعبية بعدما تخلّى عنه الناس، وانهزم مموّلوه ومن كان يمدّه بالمال والقوت، كلّ ذلك بفضل نظرة الإمام الثاقبة، ووعيه الكامل بكلّ متطلّبات الوضع السياسي والاجتماعي للبلاد. ولهذا وغيره يسرّنا أن نكون أحد أولئك التلاميذ الذين ارتشفوا معينه العذب، وصاروا روافد معطاءة تضخّ للثورة بكلّ مالديها في سبيل الإسلام، ولم يبخلوا في شيء في سبيل حفظ مبادئه وقيمه العظيمة. ومازلنا ـ كغيرنا ـ نخوض هذه المسيرة أسوةً بالإمام الراحل (قدس سره)، ونقدّم التضحيات بالغالي والنفيس، خدمةً للدين وسيرة أهل بيت النبوة عليهم السلام الذين كانوا المثال الأعلى لإمامنا الراحل، والذين واجهوا المتحجّرين من قبل بثبات وصلابة وطول صبر، ولعلّ قصة ذلك الرجل الزائر للإمام الصادق (عليه السلام) معروفة، إذ دخل عليه وقد رآه بلباس نظيف وناعم، فاعترض على الإمام (عليه السلام) بأنّ ذلك يعدّ مخالفاً للباس أجداده !
بل هو مخالف للدين !! كان هذا الرجل يريد أن يكون الإمام الصادق مثله في التخلّف والتحّجر والغوغائية، ولم يرض أن يجده على حال آخر! وهذا لم يكن لولا ضيق أُفقه، وعقله الناقص، وسلوكه الوقح.
لكن الإمام (عليه السلام) واجهه بالحقيقة، وكشف له الواقع بأنّ الفقه غير متحجّر ولا مقيّد، بل هو مرن يواكب الزمان والمكان، وظروف الناس ومعائشهم، وأنّ زمان جدّه أمير المؤمنين غير زماننا، والظروف التي كانت تحيط به هي غير الظروف التي تحيط بنا.
وإن كان الإمام الصادق (عليه السلام) قد واجه أشخاصاً أمثال هذا الرجل، فكذلك في زماننا الحالي نواجه أشخاصاً مثله، ولا يسعنا إلاّ أن نجيب كما أجاب مولانا الصادق (عليه السلام)، ونردّه كما ردّه. نسأل الله سبحانه التوفيق لنا ولكم ولكلّ أبناء الثورة الواعين، والنصر والعزّة على كلّ الأعداء والمتحجّرين، وأن يمنحنا القوة والغلبة على كلّ من يريد الضرر بثورتنا وإمامنا.
□ شكراً لسماحتكم على ما منحتمونا من وقتكم الثمين، ونسألكم الدعاء. التاريخ : 2008/08/18 تصفّح: 12477